في بحثهم عن العدالة والسعادة للبشر، يقوم المفكرون والفلاسفة والفقهاء بصياغة أيدولوجيا أو نظريات فكرية ومناهج عملية، ثم تتبنَّاها حركات سياسية قد تستلم قيادة بلد معيَّن عن طريق التصويت .
أو الثورة أو الانقلاب .. والإيديولوجيا منظومة فكرية تفسر الظواهر المجتمعية والفردية، تلزم معتنقها بتحديد موقف فكري وعملي في مختلف ميادين الحياة. وسأفرِّق هنا على طريقة (مانهايم) بين الإيديولوجيات المحددة أو الجزئية كتلك التي لفئات معيَّنة صغيرة تعبِّر عن سعيها وراء مصالحها الضيقة، مثل إيديولوجيا رجال الأعمال، وبين الإيديولوجيات الشمولية التي هي التزام كامل بطريقة الحياة. وسأتناول هنا الإيديولوجيات الشمولية فقط.
المفترض في كل إيديولوجيا أنها وسيلة غايتها تحقيق العدالة والاستقرار والتنمية للمجتمعات، مشتملة على توفير المعيشة الاقتصادية الجيدة والكرامة الإنسانية والحرية للأفراد والجماعات والسعادة البشرية. إلاّ أنَّ هذه الوسيلة كثيراً ما تتحوَّل إلى غاية، لأنَّ طبيعة الالتزام الإيديولوجي تتطلَّب من معتنقها الإيمان المطلق، مما يستلزم الولاء المقدس والانضباط الصارم والالتزام التام بروح الجماعة (الحزبية). وحين تتحوَّل الوسيلة إلى غاية فإنها تتحوَّل في الوقت نفسه إلى قوة مستبدة فوق الجميع. هذا ما توضحه لنا تجارب الدول في القرن العشرين. وبدلاً من أن تكون الإيديولوجيا في خدمة الإنسان، يصبح الإنسان في خدمة الإيديولوجيا.
في الإيديولوجيات القومية يفترض أن الدولة هي وسيلة لحفظ الأمن والاستقرار والرفاه للمواطنين، لكنها تحوَّلت إلى غاية ومن ثم إلى قوة مستبدة كما نجده مع نازية هتلر في ألمانيا، وفاشية موسوليني في إيطاليا وفرانكو في إسبانيا وأتاتورك في تركيا وغيرهم كثير.. حينها رفع شعار (الدولة فوق الجميع).. هنا تحوَّل المواطن إلى ضحية لهذا الشعار بدلاً من العكس. ونجد مشابهاً لذلك في عالمنا العربي، وما يكرره القوميون والأنظمة القومية من الدفاع عن الدولة أو الوطن حتى آخر مواطن! ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة.. وهنا أيضاً يُضحى بالإنسان لخدمة هذا الشعار. وهنا تتحوَّل الدولة إلى جهاز أمني يتربص بالمواطنين ويحصي أنفاسهم ويخضعهم لمقولات الزعيم المظفر أبو الأمة..
كذلك نجد في الإيديولوجيات الشيوعية التي يفترض أن غايتها الوصول إلى مجتمع خالٍ من الفروقات الطبقية وتوفير العدالة الاجتماعية، لكن عبر وسيلة استبدادية (دكتاتورية البرولوتاريا) أو سيطرة الطبقة العاملة على جميع الطبقات. ورغم أنَّ هذه الوسيلة حسب التنظير الماركسي يفترض أن تكون مؤقتة (المرحلة الاشتراكية) للوصول إلى المجتمع الشيوعي، إلا أنها تستمر دون نهاية حتى سقوط النظام بكامله كما حدث للاتحاد السوفييتي.. بل إنَّ مقولة سيطرة الطبقة العاملة عبر الحزب الحاكم وقائده الملهم لم تتم على أرض الواقع، إلا كشعار يخبئ وراءه جهازاً أمنياً مستبداً بالجميع يتزعمه القائد الملهم..
ومع تطور الفكرة الاستبدادية وتجذرها في كيان الدولة وتركيبتها البيروقراطية، فإنَّ الفئة الإيديولوجية المسيطرة على كافة فصائل المجتمع يتخللها تدريجياً أفراد جدد منتفعون لا علاقة لهم بالإيمان العقائدي بتلك الإيديولوجية سوى المنفعة الشخصية.. أما الصادقون المخلصون لتلك الإيديولوجية فهم يضيعون مع تداعي الأحداث.. يضيعون في النسيان أو السجون أو أحكام الإعدام كخونة! هنا تتحول الفئة الإيديولوجية المسيطرة إلى فئة طفيلية منتفعة تزعم أنها تمثل الجميع عبر الحزب القائد والزعيم الملهم، وتدعي أنها تقدمية رغم أنها تنحى في غالب الحالات إلى الاستناد على عصبية قديمة، قد تكون مناطقية أو طائفية أو قبلية.. وبالتالي يتحول الحزب الحاكم إلى حالة هزلية مضحكة مبكية في داخل البلاد، وإلى شكل دعائي هزيل بائس في الخارج، خاصة عندما يرأس هذا الحزب رئيس الدولة الملهم أو ابنه الفذ الذي سيكون ملهماً بعد موت الرئيس! إنه ابن الرئيس المقدس في كوريا الشمالية، وأخو قائد الثورة العبقري في كوبا.. والأمثلة في الجمهوريات الثورية الإيديولوجية بالعالم العربي أكثر مما في العالم بأسره!
وباستثناء الدول التي خسرت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، فإنَّ أغلب نظم الإيديولوجيات الشمولية سقطت وانهارت من الداخل دون حرب أو عمل عدواني خارجي، بل نتيجة قمع الأجهزة الأمنية وما صاحبه من تهالك البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتنامي الفئات الطفيلية المنتفعة من الشعارات الفارغة، وتوالد مؤسسات بيروقراطية رثة تعيق التنمية، وتنظيمات نقابية وحزبية خاضعة ومستلبة دمرت العمل السياسي والإبداع الفكري. ولم يبق في عالمنا اليوم دولة إيديولوجية شمولية ذات شأن عدا الصين، واستثني هنا كوريا الشمالية التي لا تملك مقومات ذات شأن سوى قوتها النووية، فهي دولة منهارة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.
ولكن الصين الماوية أدركت واستفادت من درس الانهيار المدوي لمنظومة الدول الاشتراكية شرق أوربا، وعملت تحسينات جوهرية على قطاعها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، مع التريث في التحسين السياسي، الذي يبدو أنه في طريقه للتطوير، ولم يبق من ماوية الصين الشيوعية سوى الاسم.
تجربة الإيديولوجيات الشمولية ليست فقط في الحكم وتولِّي السلطة، بل توجد أيضاً في المعارضة. ويزخر عالمنا العربي بكثير منها، وهي تتفاوت بين الإسلامي والقومي واليساري، إلاّ أنَّ أغلبها يتصف بمواصفات الدولة الشمولية نفسها، ولكن من داخل الحزب أو الجماعة: اعتناق مطلق لنظرية فكرية، هي في الأساس وسيلة لخدمة الإنسان وإسعاده، لكن لأنها مقدسة، فهي تتحوَّل إلى غاية، متضمنة فكرة استبدادية، تضحي بالفرد أو بحريته من أجل عدالة القضية.. وهي تخضع لزعيم مطلق وأقلية مستبدة، لذا حدث لأغلب هذه الحركات ما حدث لدول الإيديولوجيات الشمولية من سقوط.. لكن في مجتمعات العالم العربي ثمة فارق تجاه المعارضة، حيث واجهت مجتمعاته صعوبات حادة وفوضى عارمة أفضت بالكثير منهم إلى قابلية الميل نحو الحلول الخرافية والغيبية، ورفضت الحلول الحديثة (اللبرالية والقومية واليسارية) لفشلها.. وهنا من أفضل تخديراً من الإيديولوجيا الميتافيزقية (الغيبية) لتبني رغبة شعوب تائهة وخائفة .. لكن نواميس التاريخ توحي بأنَّ تلك الإيديولوجية لن تكون أفضل من سابقاتها: وهم كارثي!
غاية القول، إن داخل كل إيديولوجية شمولية بذرة استبداد تنمو وتتفرع وتتضخم حتى تأكل أبناءها، خاصة عندما يستلم أصحابها السلطة. والإيمان بأية إيديولوجيا هي مسألة قناعة فردية، يحق لأي إنسان أن ينتمي لها، لكن واقع الحال السياسي الذي حدث فعلاً خلال القرن العشرين، أظهر أنَّ الإيمان بإيديولوجية شمولية معيَّنة تضمن أنَّ الغاية تبرر الوسيلة، ثم تحول الوسيلة إلى نمط سلوك وقناعة، وبالتالي تتحوَّل إلى غاية بما فيها من ازدراء ورفض كافة الأفكار الأخرى وكافة مناهج التفكير المختلفة.
alhebib@yahoo.com