كما استقبلنا ضيفنا الغالي رمضان بالحفاوة وروعة اللقاء، نودعه بالحفاوة ولوعة الفراق، ولولا أن الفرح بالعيد بعد الراحل الحبيب مشروع، لغسلنا طريق رحلته بالدموع، وأظهرنا من مشاعر الحزن لفراقه ما يؤكد عميق حبنا له. |
وداعاً يا شهر القرآن، يا شهر التوبة والغفران، يا شهر العتق من النيران، يا شهر الرحمة والإحسان. |
لقد توقفت عند أفضل أساليب الوداع لهذا الشهر الحبيب، فوجدت منها عند سلفنا الصالح ما يؤكد لنا أن وداع رمضان مميز بالطاعة، كما أنَّ استقباله مميز بالطاعة، ووجدت أن أساليب المسلمين في وداع هذا الشهر الكريم في هذا العصر لا تنسجم مع معناه وروحه، كما أن أساليبهم في استقباله لا تلائم معناه وروحه - إلا عند قليل من المسلمين. |
هذا عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - يكتب إلى ولاته على الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار والصدقة، قائلاً لهم: قولوا كما قال أبوكم آدم عليه السلام {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وكما قال إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}وكما قال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} وكما قال ذو النون عليه السلام: {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}. |
وهذا رجل يردد في آخر يوم من رمضان قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} ويبتهل: يا مسلِّم سلِّم اللهم لا تجعلنا كذلك، وقد ذكر المفسرون أن المرأة التي كانت تنقض ما تغزل اسمها (رَبْطة بنت سعد) كانت في مكة مصابة بالجنون وكانوا يرونها تغزل كلَّ يوم ثوبها فإذا أكملته بدأت بنقضه حتى تنفرط خيوطها أمامها، ثم تعود إلى غَزْله في اليوم التالي، وهكذا دواليك. |
ويا لها من خسارة كبيرة للوقت والجهد بهذا النقض بعد الإبرام. |
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من الحَوْر بعد الكَوْر) الحَوْر هو النقصُ والضعف، والكَوْر هو الزيادة والقوَّة والاكتمال، فيكون المعنى: اللهم إني أعوذ بك من الضعف والنقصان بعد القوة والاكتمال، وهذا من الأساليب النبوية البيانة المتفرِّدة في مجالها، وفي كلام أفصح العرب - عليه الصلاة والسلام - من مثل هذه العبارة الموجزة البليغة شيء كثير مثل عبارة (مات حَتْفَ أنفه) لم يقلْها أحدٌ قبله صلى الله عليه وسلم، وهي تقال للذي يموت موتاً طبيعياً، ومثل عبارة (إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلِّون عند الطمع) قالها مادحاً بها الأنصار. |
أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيذكرنا بأهمية قبول العمل عند الله قبل أهمية العمل نفسه فيقول: كونوا لقبول العمل أشدَّ اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا إلى قول الحق عز وجل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}. |
أما عبدالله بن مسعود فيقول: مؤكداً أهمية اغتنام الفرص: ما ندمتُ على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي. |
ويروى عن الحسن البصري أنه قال: لا تكن ممن يقرأ القرآن في رمضان، ويهجره سائر العام، فليس ذلك شأن العقلاء من البشر، ألم تقرأ قول الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}. |
وقال أحد السلف، وقفت طويلاً عند قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}فدعوت ربي ألا يكون حالي حال ذلك الرجل الذي أشارت إليه الآيات وهو (بلعم بن باعوراء) من بني إسرائيل الذي ذاق حلاوة الإيمان وآتاه الله آياته، ثم انقلب على عقبيه واشترى الضلالة بالهدى. |
وداعاً أيها الحبيب، وداع من أحسَّ ببرد الطاعة، ولذَّة العبادة، وحلاوة الصيام في أيامك ولياليك، وداع من يرجو أن يلقاك وهو أحسن حالاً، وأعمق إيماناً، وأصفى ضميرا. |
|
وداعاً أيها الغالي الحبيب |
ولولا الصبر لارتفع النحيب |
وداعاً والرجاء لنا كبيرٌ |
بأنَّ لقاءنا الآتي قريبُ |
www.awfaz.com |
|