قال الخليفة العباسي هارون الرشيد وهو ينظر إلى سحابة تمرّ فوق رأسه: (امطري حيث شئت فإنّ خراجك سيأتيني).. كانت مقولته رمزا للرخاء والاستقرار (السياسي) لإمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، ويعيش تحت كنفها مختلف الأعراق والقوميات، وفي حكاية تروى عن الخليفة العباسي بينما هو في مجلسه إذ دخلت امرأة عليه وعنده جمع من صحبه فتقول: يا أمير المؤمنين أقرّ الله عينك, ....
....وفرّحك بما آتاك، وأتمّ سعدك. لقد حكمت فقسطت, ثم تسكت. فينظر الرشيد إلى أصحابه يسألهم عمّا قالت, فيقولون: ما نراها قالت إلاّ خيرا. فيقول لهم: ما أظنكم فهمتم. أما قولها أقرّ الله عينك أي أسكنها وإذا سكنت العين عن الحركة عميت. وأما قولها وفرّحك بما آتاك فأخذته من قوله تعالى: (حتى إذا فرحوا بما أُوتوا أخذناهم بغتة). وأما قولها وأتم سعدك فأخذته من قول الشاعر:
إذا تم أمر بدا نقصه.. ترقب زوالاً إذا قيل تم
كأن الرشيد بتأويله لمقولة المرأة يؤطر لحقيقة سياسية تاريخية عن أهم عوامل سقوط (الإمبراطورية) وهي أن.. الشعور بالتمام أو بالانتصار المطلق على جميع الأعداء هو في حقيقة الأمر رمز لحالة الاستقرار السياسي التي تمهد الطريق لزوال الإمبراطورية في أقرب وقت زمني،.... في سنة 84 قبل الميلاد، وبعد أن أكمل الرومان غزوهم العالم المعروف بهزيمة جيوش ميثراديتس، طرح الإمبراطور الروماني السؤال التالي: (الآن والعالم لا يقدم إلينا أي أعداء آخرين، ماذا سيكون مصير الدولة؟)، وجاءت الإجابة سريعا، فقد انهارت الإمبراطورية بعد ذلك بسنوات قلائل.. وفي نفس الإطار كتب المفكر الأمريكي الشهير صامويل.ب.هنتنجتون صاحب نظرية صدام الحضارات مقالة تحت عنوان: (تآكل المصالح القومية الأمريكية) في
Foreign Affairs.Vol 76.No.5, وترجمته مجلة
آفاق... مقال ربما يعد الأهم في محاولة فهم مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية.
تحدث المفكر الإستراتيجي بداية عن ماهية الهوية الأمريكية، من الناحية التاريخية، وأشار أن لها مكوِّنان أساسيان: الثقافة والعقيدة. الثقافة هي قيم ومؤسسات المستوطنين الأصليين الذين هم من أوروبا الشمالية، وهم، أساسا، بريطانيون مسيحيون، وأساسا، بروتستانت. وهذه الثقافة كان أهم ما اشتملت عليه اللغة الإنجليزية والتقاليد الإنجليزية المتصلة بالعلاقات بين الكنيسة والدولة ومكان الفرد في المجتمع.. والمكوِّن الثاني للهوية الأمريكية هو مجموعة من الأفكار والمبادئ الكلية توضحها الوثائق التي وضعها المؤسسون الأوائل: الحرية والمساواة والديموقراطية والتقيد بالدستور والنزعة التحررية (الليبرالية) والحكومة ذات المسؤولية المحدودة تجاه حرية الاقتصاد.. هذه كانت - الكلمات أعلاه - مقدمة لمقال سابق عن نظرية هنتجتون في صراع الحضارات والبحث عن أعداء جدد، وهي المعركة التي ظهرت نتائجها سريعاً منذ إعلان بدايتها بعد سقوط جدار برلين.. وكانت المهمة الأمريكية آنذاك البحث عن العدو البديل بعد زوال الشيوعية، والذي وجدوه في الإسلام وفي ملاحقة ثغور الإرهاب في حجود وقلب العالم الإسلامي..
خاضت الولايات المتحدة أعنف حروبها ضد الإرهاب الإسلامي في عصر جورج بوش الابن، والذي أعلن مراراً انتصار أمريكا على العدو الجديد، وبإعلانه ظهرت علامات تمام إمبراطورية الولايات المتحدة الأمريكية في عصر بوش الثاني، والذي كان فترته تمثل أوج عقيدة المحافظة والمتكونة من الموروث الأنجلوساكسوني الأبيض البروستانتي وتقاليد حرية اقتصاد السوق التي لا تسمح بالتدخل الحكومي في شؤونه، وأكمل الرئيس الحالي تمام الدورة التاريخية للإمبراطورية الأنجلوساكسونية بإتمام غزو جيوشه للعالم القديم بعد إنهيار جدار برلين ونشر قواعده العسكرية في العالم وبالقرب من موسكو بغداد والخليج وتايون وسيول... حالة التمام أو الشعور بالوصول إلى القناعة التامة بأنهم بالفعل حققوا الحلم السياسي الأمريكي تحققت، فقد انتصروا على الآخرين وأضحوا عسكرياً يحكمون العالم بأسره..
لكن الفرق أن هارون الرشيد أدرك تلك اللحظة التاريخية، ولم يدركها جورج بوش، والآن لم تبق إلا أشهر معدودة على نهاية فترته الرئاسية في البيت الأبيض، بينما بدأت أخبار بدء إنهيار إمبراطورية المال الأنجلوساكونية تأخذ الطابع الرسمي، عندما أعلن الخروج إلى العالم، وإعلان أن الاقتصاد الأمريكي في خطر، وأن إنهيار الرأسمالية وحرية التجارة بطابعها الأمريكي بات وشيكاً والولايات المتحدة في أوج سيطرتها على العالم، وهو ما ينبئ بانهيار أحد مقومات العقيدة الأمريكية وهي حرية التجارة، وسيكتمل انهيار باقي مقومات هذه العقيدة عندما يتم انتخاب ذو الجذور الأفريقية والمسلمة باراك حسين أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية في الفترة القادمة.. وإذا حدث ذلك ستسقط أحد أهم أركان عقيدة إمبراطورية الأنجلوساكسون في أمريكا الشمالية.. وستدخل إمبراطورية الرجل البروستانتي الأنجلوساكسوني في مرحلة جديدة من أهم مظارها إنحسار تدخلاتها التجارية والعسكرية في بقية العالم ودخلوها عهد جديد يهدف لإعادة البناء من الداخل، وهو ما يعني بدء اختفاء هذه الإمبراطورية كما حصل مع الإتحاد السوفيتي في عصر جورباتشوف، وكغيرها من الإمبراطوريات التي حكمت العالم لقرون ثم زالت بعد تمامها..
أمام العرب فرصة تاريخية للنهوض والاستقلال اقتصادياً و وطنياً في ظل ماهو متوقع حدوثه في المستقبل القريب، لكن التاريخ لن يشفع لهم أخطاءهم التاريخية إذا اعتقدوا أن الحلم الأمريكي له بقية، وأن أمريكا ستظل زعيمة العالم الحرّ وصاحبة القرار الأهم في العالم، فبعد تجاربها المريرة والمكلفة بشرياً ومالياً في العراق وأفغانستان لن تعود مرة أخرى إلى الشرق لمساعدة حلفائها.. ولن تجرؤ على التفكير في ذلك، وإذا حدث وعادت ستزول في توقيت زمني قياسي.. ولا أظن الكلمة ستكون للعرب في الزمن القريب، فمقاعد النجومية في القرون القادمة محجوزة للهند والصين والبرازيل.. وعليهم انتظار حالة تمام أخرى لإمبراطورية جديدة ما لم يسابقوا الزمن في النهوض سريعاً من حالة الكسل التاريخي المزمن..