تتابع الجهود المبذولة لإنقاذ الاقتصاد من الأزمة المالية، ومن ذلك لقاء الرئيس الأمريكي بوش مع نظيرة الفرنسي ساركوزي لمناقشة الأزمة العالمية, ولكن المتابع للأحداث يجد أن رؤية كل واحد منهما للمشكلة مختلفة عن الآخر، ففي حين نجد أن الرئيس الأمريكي يؤكد على سلامة الاقتصاد الأمريكي في الأجل الطويل، نجد أن الأوروبيين يريدون عملية إصلاح حقيقية وكاملة للنظام المالي العالمي، فهم يرون انه يجب إعادة بناء المؤسسات المالية كي تواجه مرحلة جديدة تماما، حيث إن المنافسة تجري على المستوى العالمي وفي إطار اقتصاديات مفتوحة، في إشارة إلى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين انشئا بموجب اتفاقية بريتون وودس.
فالأوروبيون يرون أن الأزمة غير عابرة, فالأمور لا يمكن أن تستأنف بعدها كما كانت في السابق.
هذا يثير سؤال في غاية الأهمية، مفاده هل الأزمة المالية الحالية مجرد أزمة عابرة مرتبطة بخطأ معزول، أم أنها هيكلية مرتبطة بطبيعة النظام الرأسمالي؟
يرى بعض الساسة الليبراليين أن الأزمة نتيجة إستراتيجية استثمار خاطئة، تتمثل في إقراض الفقراء، لكونهم شريحة غير مضمونة السداد، وأصحاب هذا المبدأ من دعاة الرأسمالية المتوحشة (التي ظهرت في القرن 19 ثم تراجعت أفكارها، ثم مالبثت أن ظهرت مجددا خصوصا بعد سقوط النظام الاشتراكي، والتي من أهم مطالبها القضاء على بقايا النقابات العمالية, والتأمينات الصحية والاجتماعية، ورفع القيود عن رؤوس الأموال وتصعيد نفقات التسليح) نجدهم يتحدثون اليوم عن ضرورة إعطاء مسحة أخلاقية للنظام الرأسمالي، الغرض منها المحافظة على الرأسمالية القائمة.
من الناحية الأخرى إذا كانت الأزمة عابرة والخطأ معزول، فلماذا هذا الانتشار السريع للازمة في العالم؟! هذا يعني أن النظام الرأسمالي هش، طالما أن انهيار بنك مالي يعمل كل هذا في شتى القارات. كما لا يمكن اعتبار العمالة وصغار الموظفين عالة على نظام الإقراض وتناسي دورهم في الادخار والاستهلاك.
فالتحليلات الليبرالية تتفادى الخوض في عمق المسائل المتعلقة بالاستثمار والمضاربة ودور الدولة. فمنذ نهاية الثمانينات ونهاية الحرب الباردة أفلتت هذه المسائل من عقالها بانفراد الليبرالية في الساحة. فالعقلية الرأسمالية تلهث وراء تعظيم المنافع والأرباح، وبحسب هذا النظام فان المبدأ الذي يقوم عليه أن تعظيم المنافع الخاصة للأفراد سوف يؤدي في نهاية المطاف إلى تعظيم المنفعة العامة للمجتمع، حسب آلية السوق ونظرية اليد الخفية لآدم سميث، التي يبدو أنها تعاني من التهاب في المفاصل.
حيث نجد أن تعظيم المصالح والأرباح لفئات معينة كانت على حساب الطبقات الوسطى والفقيرة التي تعاني من الجوع والمرض والتشرد.
وتأتي المفارقة الأعظم بتبني الدولة لخطة الإنقاذ، بداية يجب السؤال ما المقصود بكلمة إنقاذ؟! هل المقصود هو إنقاذ الطبقة المتوسطة أم إنقاذ الاقتصاد الوطني أم إنقاذ حركة الإنتاج والاستهلاك؟!
تقول الخطة إن الدولة تقوم بتخليص المصارف المالية من الصفقات والعقود الخاسرة, وترك المضمونة الرابحة منها للمصارف, وهذا يعني تتحمل الدولة الخسائر ويعفى أصحاب الثروات المالية الحقيقية من الخسائر والمسؤولية أيضا. ولكن الدولة لا تملك ثروة ذاتية للتمويل، فتقوم بتحميل هذه الخسائر لدافعي الضرائب، والتي هي في واقع الأمر أموال الإنفاق العام المخصصة لخدمات الصحة والتعليم والتقاعد ودعم البنية التحتية. ولكن حجم الخسائر التي تتحملها الدولة اكبر بكثير من أن تكفي الضرائب السنوية لتغطيته، مما يحد بالدولة أن تقترض لتغطية خسائر أصحاب رؤوس الأموال، من أصحاب رؤوس الأموال أنفسهم (المصارف), ثم تسدد الدولة هذه القروض المتضخمة والمتضاعفة ربويا، الأمر الذي يحتاج لعشرات السنين، ولا يتحقق إلا بجباية المزيد من الضرائب السنوية من السكان، فتقع أعباء القروض على الطبقة المتوسطة والفقيرة، والذي سوف يمتد للأجيال القادمة، لصالح من يعطي القروض أي أصحاب المال.
في مقابل هذا الموقف من قبل الحكومة الأمريكية بسرعة التدخل لإنقاذ السوق المالية وحماية المضاربين في البورصة, نجد انه في فتره من الفترات كانت الحكومة الأمريكية ترفض مطالب الجمعيات وبعض مكونات المجتمع المدني الأمريكي، بتدخل الدولة لشراء بعض المستشفيات الخاصة وتوفير إمكانية العلاج لملايين الأميركيين المحرومين من التغطية الصحية نظرا لعدم انخراطهم في التأمين الصحي.
وفي فرنسا، كان ساركوزي قد ركز في حملته الانتخابية على دور العمل وعلى دور المبادرة الفردية والمؤسسات في إنعاش الاقتصاد, وتشجيع المستثمرين عبر العديد من الإعفاءات الضريبية مع تشديد الخناق على سياسة الدعم الاجتماعي التي تحظى بها الشرائح الفقيرة, وعدم تأييده لدعم صناديق التقاعد والضمان الصحي التي تشهد عجزا مزمنا, بخاصة أن الوزير الأول فرانسوا فيون قد أعلن أن خزينة الدولة فارغة وغير قادرة على تمويل سياسة التغطية الاجتماعية, وإذ بنا نفاجأ اليوم بالضخ المالي الهائل لمساعدة البنوك المتضررة.
وفي نهاية المطاف تكون الأزمة الأعمق هي الأزمة الفكرية (للنظام الرأسمالي) التي لابد من وجود خطة لإنقاذها أيضا من الانهيار.
باحثة اقتصادية