نحن ككتاب وكصحافة نعيش في عهد الملك عبدالله - حفظه الله - هامشاً من الحرية لم نعرفه في الماضي؛ هذه حقيقة لا يمكن أن يتجاوزها إلا مكابر. غير أن ممارسة الحرية الصحفية عندما تتخطى المعقول، وتتحول إلى البحث عن بطولات (شخصية)، دونما روية، وبلا ضوابط، فإن ردة الفعل ستنعكس حتماً على سقف الحريات، بشكل يجعله (أخفض) من ذي قبل، وبالتالي يصبح المتاح من حرية النقد أضيق؛ فالحرية مسؤولية قبل أن تكون أي شيء آخر.
وأنا أقول دائماً وأكرر: إن الكاتب في هذا العهد الميمون يستطيع أن يطرح أي قضية في الصحافة لدينا، إذا قرأ الشأن الذي يريد الكتابة عنه قراءة موضوعية، وألمّ بالواقع بأبعاده، وما يكتنفه من ظروف، بالشكل والمضمون، الذي يجعله في النتيجة يعرف كيف يطرق باب المسؤول، واضعاً نصب عينيه اعتبارات كثيرة، لعل أولها وأهمها بالنسبة لنا ككتاب ألا (يضر) بهامش الحرية التي أتيحت لنا مؤخراً. وعندما توظف المتاح من الحريات بنزق، أو لا مبالاة، أو اندفاع، فإن الخاسر الأول في المحصلة هو (الحرية) الصحفية.
والكاتب العاقل والحصيف هو الذي يتعامل مع (مكتسباته)، وبالذات المتاح له من الحريات، على أساس أنها (ثروة) يجب أن يستثمرها و(يُنميها) بأكبر قدر من الحذر، والحسابات الدقيقة، حتى وإن اقتضى الظرف أن يُقدم بعض التنازلات، كي لا يقضي على أصل (رأس المال) وهو يظن أنه يبحث عن مزيد من الأرباح؛ فما لا يدرك كله لا يترك جله كما يقولون. أعرف أن تحقيق هذه المعادلة من الصعوبة بمكان، وأن هناك الكثير من العوامل التي تؤثر في هذه المعادلة؛ الأمر الذي يجعل الكتابة في نهاية المطاف بمثابة (المغامرة) غير مأمونة العواقب في الغالب؛ فالكلمة في عصر الإعلام هي التي تشكل المفاهيم، وتنسج الرأي العام، ومنها تستطيع أن تقرأ حالة أي بلد؛ ليس الحالة الثقافية أو الإعلامية فحسب، وإنما السياسية أيضاً. والمشكلة التي تكتنف هذه المعادلة أن كل العوامل التي تتحكم فيها تقديرية، فما قد يعتبره (الكاتب) في طرحه معقولاً قد لا يعتبره المسؤول كذلك، وهنا تأتي أهمية (رئيس التحرير) الذي يجب أن يكون قادراً على قراءة الوضع قراءة واعية، والموازنة بين السقف المتاح من الحرية، والعمل الصحفي الذي أمامه، ومن ثم إجازة النشر أو رفضه.
والملك عبدالله - حفظه الله - بطبعه، وتكوينه الفكري والثقافي، رجل منفتح، يميل إلى سماع الرأي الآخر، ويحرص على أن تصله الآراء الناقدة أكثر من اكتراثه بالإشادات والتطبيل، والمدح الذي لا يتكئ على مرتكزات منطقية ومبررة. وهو - كما يقول العاملون في معيته - أكثر من يدافع عن حرية الكلمة بحماس وثبات.
وفي كلمته الأخيرة في افتتاح مجلس الشورى مؤخراً جعل من نفسه مثالاً للعاملين معه في كيفية التعامل الواعي والمسؤول مع النقد، في إشارة لا تخفى على الحصيف؛ يقول - حفظه الله - بالنص: (يشهد الله تعالى أنني ما ترددت يوما في توجيه النقد الصادق لنفسي إلى حد القسوة المرهقة، كل ذلك خشية من أمانة أحملها هي قدري وهي مسؤوليتي أمام الله - جل جلاله - ولكن رحمته تعالى واسعة، فمنها استمد العزم على رؤية نفسي وأعماقها).
ولكي لا نخسر مثل هذه المكتسبات، لابد من أن نكون أهلاً للأمانة، وكذلك على قدر من المسؤولية تتوازى مع خطورة الكلمة في هذا العصر الذي أصبح فيه الإعلام أحد مكونات ثقافات الشعوب وتوجهاتها. إلى اللقاء.