والراصد لتحولات قاسم أمين الفكرية يروعه الانحدار غير المبرر، غير أن المشاهد الفكرية والسياسية والدينية نجم فيها من وقعوا في حمى الحضارة، وحققوا مقولة الغزو والتآمر، وتهديد الحُصُون من الداخل، ومهما تحفظنا
......على نظرية الغزو والتآمر فإننا لا نستطيع الخلوص من تلك الهواجس متى استوعبنا التاريخ الحركي ل(قاسم أمين) و(طه حسين) و(عبدالعزيز فهيمي) و(مصطفى عبدالرازق) ودعك من السلسلة الصدئة: (جرجي زيدان) و(سلامة موسى) و(لويس عوض) و(غالي شكري). ومبادرة كل واحد من أولئك لمفردة من مفردات الحضارة الإسلامية ليس من باب الصدف، ولكن من باب المكر والتآمر، وما من أحد من هؤلاء إلا هو مجند لنقض عرى الإسلام عروة عروة وسيان عند المتصدين أن يكون المقترفون للخطيئات مبادرين من عند أنفسهم أو مجندين، مخطئين أو متعمدين مُصرِّين أو مترددين، مادامت النتائج واحدة في الحالين.
وقاسم أمين في كتابيه الأخيرين يمثل الانتكاس الفكري، فيما جاءت باكورة إنتاجه إسلامية صرفة بل كان سلفيا مستنيرا، حيث تجلت مواهبه الجدلية واستثماره المسدد للتاريخ الحضاري للإسلام، وليس غريبا انتكاس العباقرة وكبار العلماء وأساطين الفكر، وأقرب مثل على ذلك انتكاس المفكر العربي الكبير (عبدالله بن علي القَصِيْمي) لقد كان سلفياً وعالماً ربانياً، تصدى لخصوم الحركة الإصلاحية، وأقوى رد فكري عرفه التاريخ الفكري الحديث كتابه (الصراع بين الإسلام والوثنية) في الرد على مؤلف كتاب (كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبدالوهاب) وحين أضله الله على علم ختم حياته بكتاب لم يؤلف مثله في الإلحاد، وهو كتاب (الكون يحاكم الإله) الذي طبع في باريس عام 1981م ويقع في أكثر من سبعمائة صفحة، فكلما قرأت فيه عرتني هِزَّة كما العصفور بلَّلهُ القطر، وعيب مشاهدنا تهافت المتسطحين على التعذير والتبرير لمثل هؤلاء المنتكسين، ولو أن أحدهم كلَّفَ نفسه عناء الجَسِّ والتثوير ونبش الوثائق وسَبْرِ الأحوال لما وسعه إلا البراءة من هؤلاء أو تفويض أمرهم إلى من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وذلك أضعف الإيمان، وما أشفقت على أحد شفقتي على من يقع في نواقض الإيمان ثم يقول: لا مزايدة على الإسلام.
وقاسم أمين الذي طغى اسمه حتى حجب الرؤية عمن هم أسوأ حالة منه مسبوق بدعاة سوء ومستغربين، فلسفة (رفاعة الطهطاوي) أكثر تزكية للمرأة الفرنسية، فيما يأتي هو أكثر اختلاطاً ومعايشة لهذا المجتمع الذي أوغلت ثقافته وأدبه في مصر عبر قنوات مؤسساتية وتفانيات فردية تولى كبرها (طه حسين) في ترجماته ومقالاته، وكتابه (مستقبل الثقافة في مصر) الذي تصدى له عدد من المفكرين والحركيين والأدباء ومن بينهم (سيد قطب) في كتابه (المستقبل لهذا الدين) يعد جماع أمره و(الطهطاوي) بوصفه سلف (أمين) جاءت رؤيته فكراً وحكماً، أما (قاسم) فقد جاءت رؤيته ممارسة واستلاباً، وتأثير المجتمع الفرنسي من خلال عشيقته (سلافا) واضح كل الوضوح، ولقد تقصَّاه الدكتور (محمد عمارة) في مقدمة أعماله الكاملة، ولخصه (سليمان بن صالح الخراشي) في موسوعته (نظرات شرعية في فكر منحرف) المجلد الثاني ص800، ومن قبله الدكتور (ماهر فهمي) مع اختلاف في المناطات.
وقاسم في كتابه (المصريون) الذي ألفه باللغة الفرنسية عام 1894م في سبيل الرد على الدوق الفرنسي (داركور) الذي أساء إلى المصريين بتحامله على أوضاعهم في كتابه (سر تأخر المصريين) وركز فيه على تخلف النساء المصريات واشتط في نقد ظاهرة الحجاب والتعدد والطلاق والتفريق بين الجنسين في التَّعلُّم والعمل وسائر مناشط الحياة، ولقد جاء رَدُّ قاسم سلفياً محافظاً يدافع عن موقف الإسلام من المرأة ويحذر من السفور والتبرج والاختلاط، ويحاول التفريق بين العادات والتشريعات، فالممارسة غير السوية لا تحال إلى مبادئ الإسلام بوصفه شرعة ومنهاجاً، غير أنه بعد أربع سنوات من إصدار كتابه (المصريون) باللغة الفرنسية نكص على عقبيه وراح يتحدث عن الآثار السلبية للحجاب ويطالب بتقييد الحق المطلق للرجل في الطلاق والحدِّ من نظام التعدد، وإشكاليته التي استلبها من جاء بعده الخلط بين الممارسات والتشريعات بحيث حمَّل المبادئ جرائد الممارسات الخاطئة.
والراصد لتحولات (قاسم أمين) يدرك ارتباطه الوثيق ب(سعد زغلول) الذي لم يبلغ أحد من قبله ولا من بعده مبلغه في المطالبة بحرية المرأة، والملفت للنظر أن (العقاد) الذي ظل معارضاً أشد المعارضة لإعطاء المرأة مزيداً من الحريات يجعل من (سعد) مثله الأعلى، ولقد ألف عنه كتاباً جعل فيه (سعداً) هبة السماء للأرض، فلقد بلغت أحوال المرأة الدرك الأسفل في عهد (سعد) حتى لقد أصبحت بيوت الدعارة تفتح بقوة النظام وتحمى قانونياً في ذلك العهد.
وإشكالية (قاسم) أنه بعد التجنيد يخلط بين الشرعي والمعرفي والعادات والعبادات، ويتصور أن تفادي الضعف يبدأ من المرأة، وأن السفور والتبرج والاختلاط الذي امتهنته المرأة الغربية هو وحده الذي فجر المعارف وحقق العدالة والمساواة وقضى على الجهل والفقر والبطالة، ولو أن رواد النهضة العربية عرفوا مكامن التخلف وأسلوب التناول لما كانت أحوال الأمة على ما هي عليه الآن، والخطورة ليست في مبادرة التغريب ولكنها في جهل الحلول، والمقدمات الخاطئة تهدي إلى أسوأ الطرق، والإصرار الذي امتد لأكثر من قرن على أن بوابة الخروج من التخلف يبدأ من المرأة دليل قاطع على أن وراء الأكمة ما وراءها، ولأن قاسم أمين لم يكن الأسوأ في موقفه من المرأة فقد حاولت التحقق من أسباب اشتغال الرأي العام بآرائه ودفع العامة لإيذائه ومضايقة زوجته، ولم أجد لذلك أسباباً تتعلق بموقفه من المرأة، بل تتعلق بمواقفه السياسية ومناصرته لسعد زغلول، لقد منع قاسم من دخول القصر الخديوي بثلاثة دوافع:
الأول موقفه السياسي المناوئ للقصر وللاستعمار.
الثاني تمنع القصر في شأن السفور لارتباط ذلك بالحملة الفرنسية.
الثالث إرضاء الرأي العام السائد إذ ذاك.
ومما زاد في التصدي له والتشهير به وإغراء الرأي العام عليه دون من سواه ربطه اضطهاد المرأة بالفساد السياسي، والغريب في الأمر أن الذين واجهوا الرأي العام وتحدوا مشاعره من العلماء الشرعيين والقضاة، فمصطفى عبدالرازق الذي كتب عن الخلافة من القضاة، ومن قبله رفاعة الطهطاوي من العلماء والخطباء والمرشدين والوعاظ، وقاسم أمين الذي كتب عن حرية المرأة هو الآخر من الحقوقيين والقضاة، فهل هذه دسيسة استعمارية، فَتَوَلِّي هذا الصنف من العلماء لمثل هذه القضايا الخطيرة قد يعشي العيون. علماً أن قاسم أمين كان وطنياً وتقدمياً وممن أسهم في التأسيس للتعليم الجامعي وشارك في نشاط (الجمعية الخيرية الإسلامية) ولمَّا يعد كغيره من المتنكرين لسائر المؤسسات الإسلامية، ولهذا كان بودي أن تعاد قراءاته من خلال مجمل السياقات، وأن يتجاوز القراء الجاهزيات وما كتب عنه إلى ما كتب بيده، ففي ذلك مفاتيح لكل متعلقات القضية الضجة، والدارسون لآرائه وأثره في مجمل المشاهد يعدونه من الجيل الثالث من أجيال التنوير بوصف المعاصرين لحملة نابليون الجيل الأول ومن خلف رفاعة الطهطاوي الجيل الثاني، وأياً ما كان الأمر فإن ظاهرة الاجترار الممل لا تدع قضية المرأة ولا تتقدم بها خطوة واحدة إلى الأمام، وأحسب أن الفراغ والأقواء ونفاد القضايا تحفز الفضوليين على الترديد الممل، وكان بودي لو رفعنا هذا الملف وخضنا في قضايا مِفْصَليَّة نحن أحوج ما نكون إلى فتح ملفاتها وتداول الرأي حولها، وإذا كانت تهمنا قضايا المرأة فعلينا أن نعيد الكاسيات العاريات المائلات المميلات إلى جادة الصواب، فإذا استقمن كما أُمِرْن شَمَّرنا عن سواعدنا لرفع الظلم عمن نظن أن العادات السيئة قد غمطتهن شيئاً من حقوقهن المشروعة، إن السكوت على التبرج الجاهلي وقبول الرذيلة كما هي بادية للعيان عبر كافة المشاهد والتفاني في إخراج المرأة من مملكتها تحت أي مبرر دليل على أن الحراك لم يكن بدافع شخصي، وإذا نظرنا إلى تراث قاسم أمين المتداول على كافة الألسنة تبادر إلى الذهن تراث يفيض بالتجاوزات وعاه تاريخ الحركات الإصلاحية المتعددة الاتجاهات ولنا عودة قريبة إلى شطحات تلك الحركات.