وحتى نقدر أهمية السلامة والأمن كأهم معطيات الهندسة الصناعية، فإن علينا أن نفكر في المنشآت الصناعية الكبرى الأكثر نجاحا والأفضل سمعة؛ وكذلك القطاعات العسكرية المتقدمة، التي تنفذ عملياتها عبر فلسفات محكمة في السلامة الصناعية..
..ولها مناهج تطبيقية لتحقيق الأمن بمفهومه الدقيق، ما جعلها تحظى بالموثوقية، وتحقق النجاحات المشهودة. فالأسطول الحربي حيث الطائرات العملاقة والقاذفات والسفن والغواصات والمدافع والدبابات ومصانع الذخائر والمتفجرات والأسلحة، ومثلها وسائل النقل التجاري من طائرات وسفن وقطارات ومركبات فضائية وأجهزة ملاحة عالمية وغيرها، تعتمد في بقائها على هندسة سلامة دقيقة وحساسة، تعد جزءا أساسيا من مخططات تصميمها وتنفيذها وتشغيلها ومراقبتها. كما أن مشاريع إنتاج البترول ومشتقاته، ما كان لها أن تنجح دون اعتمادها على درجات متنوعة من إجراءات السلامة في مراحل عملياتها. وبمرور الزمن عبر التاريخ الصناعي، تتزايد مقومات السلامة في التصنيع، وبقدر ما تكون المؤسسة الصناعية معتمدة على معايير قصوى في مجال السلامة، بقدر ما تحقق نتائج مرضية، وتكسب مصداقية وثقة في الأوساط ذات الاهتمام. ومن المهم هنا الإشارة إلى أن السلامة والأمن تعتبر مسؤولية الجميع. ويفترض في أي منشأة أن تتولى نشر ثقافة الأمن والسلامة الصناعية وغرسها في قيم ووعي الأجيال من موظفيها عبر المناهج والبرامج وعبر تطبيقات سياسات المديرين والمشرفين التي تضع أعلى وأفضل المقاييس لتوفير البيئة الصناعية الآمنة.
وتجدر الإشارة هنا للتذكير بأن المصانع العالمية المحترمة لا تسمح بإنتاج وتصدير مصنوعاتها إلا بعد أن تتجاوز المنتجات مراحل معتمدة تضمن تحقيق السلامة. وتمر تلك المراحل بتجارب واختبارات، يتم فيها الفحص والتقصي وتطبيق الشروط والمعايير التي تقرر نجاح المنتج أو فشله في اختبارات السلامة. ومن الطبيعي أن تتفاوت المصانع الدولية في مستويات السلامة في منتجاتها، الأمر الذي يحتم ضرورة اليقظة والبحث المستمر من قبل المجتمعات لتجنب المخاطر ومنع الخسائر.
وعبر تراكم السنين أصبحت هنالك مفاهيم عامة عن مستويات دول العالم في تحقيق السلامة وكسب ثقة المستهلك العالمي عن جودة وسلامة منتجاتها. وتعطينا الحوادث الناتجة عن ضعف وسائل السلامة في المنتجات تقويما عاما لمستويات المنتجات العالمية. فقد أصبح المجتمع العالمي على درجة من الإدراك والوعي ما يجعله يقرر تلقائيا عن جودة المنتجات وقيمتها ومدى الإقبال عليها أو الثقة بها. وليست الانفجارات والحرائق والأعطال الخطيرة إلا نتائج لنقص في وسائل أو برامج السلامة، مثل حوادث إطارات السيارات وتلوث الأغذية أو تلوث البيئة أو انهيار المباني. ويدرك العامة ناهيك عن المتخصصين مستويات وتصنيفات الصناعات التي تفتقد إلى إجراءات أو ضمانات السلامة في مكوناتها، أو في مرحلة من مراحل تشغيلها. ولا تختلف مخاطر السلامة الصناعية عن مخاطر تحقيق الأمن في بيئة المنشأة أو المصنع، فالإهمال والسرقات والتخريب، هو ما يمنح تلك المنشأة أو الموقع أو حتى البلد بأكمله، سمعة ومكانة في وعي المجتمع المحلي أو العالمي.
ولا تحظى الدول التي تنتج السلع المتدنية المعايير أو تستوردها، باحترام كبير، لما فيها من مخاطر متعددة، ويدرك الكثير من المسافرين حول العالم، تلك النقلة الواضحة بين البلدان التي تحرص على تحقيق مستويات عالية في مجالات السلامة في بيئتها وشتى مجالات حياتها، حيث السلامة والأمن مطلبان تكامليان يضمنان الصحة العامة وصحة البيئة، ناهيك عن السلامة المادية في حد ذاتها. ويشتكي بعض المسافرين من أمراض وآلام تحدث لهم حين يتناولون الأطعمة أو المشروبات في بلدان معينة معروفة بتدني معايير السلامة في معظم شؤونها. بينما لا يواجه المسافرون تلك الحالات في بلدان أخرى فيها مستويات متقدمة لمعايير السلامة وتعرف بتفوقها وقيمها الصناعية؛ ما ينعكس إيجابا على بيئتها ومأكلها ومشربها. فالبلدان التي تعتمد معايير السلامة بشكل صارم، وتنتشر فيها القيم المهنية العالية، تعد بلدانا جاذبة؛ وتحظى صناعاتها ومنتجاتها وسياحتها والإقامة فيها بالثقة لقدرتها التنافسية المبنية على السلامة وجودة المعايير كأحد مقوماتها. وهكذا فقد أصبح تقييم العمال والمهنيين وكافة القوى البشرية، انطلاقا من المنظور العام لبلدانهم، وما يتحقق لها من مستويات في مجالات الأمن والسلامة الصناعية. وقد أثبتت التجارب الميدانية، أن العمال والمهنيين المهرة الأكثر التزاما بالمعايير المهنية، والأكثر إتقانا للتخصصات الدقيقة والحساسة، يأتون من دول تنظر إلى عوامل ومقاييس السلامة والأمن الصناعي بمنظور وطني هام وحازم.
وفي مثال آخر، حول ما يمكن أن تقدمه الهندسة الصناعية في مجال تحقيق الأمن وضمان السلامة، أننا حين ننظر إلى بعض الإجراءات المادية المتخذة لحماية بعض المنشآت والمباني من خطر الإرهاب، ندرك حجم التغيير في المكان الذي قد يصل إلى درجة التشويه للمكان لغرض تحقيق الأمن، ناهيك عن ذلك الأثر النفسي السلبي المصاحب لتنفيذ الإجراءات الأمنية، حين لا تراعى فيها معطيات الهندسة الصناعية الملائمة. وإن تخطيطا هندسيا للموقع في ضوء المستجدات الأمنية، يمكن أن يحقق الخيار الأمثل، بتوفير المستوى المطلوب من الأمن في هذا الموقع أو ذاك، بأساليب ووسائل أقل، وبمظهر لائق لا يؤثر على الشكل العام للموقع، ويسهم في غرس ثقة أمنية أكثر من بعض الإجراءات المادية المتراكمة بشكل لا يوفر الأمن المطلوب ويخل بجمال بيئة الموقع وطبيعته.
ولتحقيق أفضل متطلبات الأمن الصناعي، فإن علينا بصفة مستمرة أن نضع الأمن والسلامة في منظورهما التكاملي. فهنالك أمن الأجهزة والمعدات، وهو جزء لا يتجزأ من صناعة الأجهزة نفسها، وكذلك هندسة الأمن والسلامة للموقع والبيئة المحيطة. ثم هندسة الثقة، التي تعمل على دمج وتطوير الأجهزة ووضع الحلول وتشغيل معطيات السلامة بصفة مستمرة. وتدخل في شؤون حياتنا اليوم صناعات كثيرة جدا منها النووية والكيميائية والبيولوجية تعتمد في إنتاجها وتشغيلها أو الاستفادة منها على عوامل السلامة التي تعمل في صلب أنظمتها. ويمكن لتلك الصناعات في مراحل مبكرة من تجاربها أو إنتاجها، وحتى بعد إنتاجها وتصديرها، أن تحدث الكثير من المخاطر على الإنسان والبيئة؛ ما لم يتم التعامل معها بمتطلبات السلامة المقررة. ولنتذكر حالات التسمم والتلوث التي يعلن عنها من حين إلى آخر وتنتج عنها الكثير من الخسائر في أرواح البشر والكائنات الحية والبيئة، ناهيك عن الخسائر المادية والمعنوية؛ وتلك مؤشرات عن نقص في المهنية ونقص في وسائل واحتياطات السلامة، ونقص في الوعي العام بمعايير السلامة. كما أن كثيراً من الأمراض الغامضة والحوادث المتكررة تعزى إلى تبعات صناعية ما كان لها أن تحدث في محيط صناعي آمن ومحصن.
وإذا أدركنا حجم الدراسات والبحوث في مجال تحقيق السلامة وضمان الأمن وكسب الثقة في الصناعات الحربية، وما تحقق لها اليوم؛ فإننا لا يجب أن نبحث عن الأعذار لأصحاب المصانع والمشاريع مهما كان حجمها، من أن يحققوا مستويات عالية من السلامة وكسب الثقة. وتكفي نظرة سريعة على ما تحتويه مخازن جيش صغير من الصواريخ بعيدة ومتوسطة المدى، وما تتضمنه في صناعتها من وسائل دقيقة تكفي لإطلاقها وتوجيهها حسب اتجاهات معينة ومسافات محددة، لتنفجر في أرض العدو مع ثقة كبيرة لدى الجنود العاملين عليها. ولنا أن نقيس على ذلك الكثير من الأسلحة والطائرات المحملة بالذخائر والمتفرجات. وكذلك المستودعات الحربية المليئة بأنواع كثيرة من الذخائر التي لولا أنها تحت إجراءات صارمة تحقق السلامة والأمن لكانت كوارثها ملء السمع والبصر. ثم أيضا ميادين الرماية التي لا يخلو بلد منها، وهي تعج بالمخاطر المفترضة، وتكاد حوادثها أن تكون معدومة بسبب وسائل واحتياطات الأمن والسلامة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الثقة التي تحققت للجيوش المحترفة في التعامل مع الأخطار ما كان لها أن تتم لولا العمل عبر الأبعاد الثلاثة للأمن والسلامة الصناعية (أمن النظام، هندسة السلامة للموقع، وهندسة الثقة). وعلينا أن نتذكر أن ركوب الطائرة عند بداية صناعتها قد واجه الكثير من التردد وانعدام الثقة نظرا لنقص كبير في فهم معطيات ومقومات سلامة الطيران؛ وبنفس القدر من التردد والخوف كان ركوب الغواصات في أعماق البحار. ومن الطبيعي أن الحوادث الصناعية وما تبعها من تحليلات وتجارب قد ساهمت في وضع المزيد من إجراءات السلامة في الأنظمة وفي البيئة الصناعية وكسبت الصناعات الحديثة في الدول المتقدمة مزيدا من الثقة وأصبح السعي لسياحة الفضاء عبر مركبات الفضاء المتقدمة صناعيا هدف يخطط له أن يكون في متناول الراغبين في المستقبل.
ومن الطبيعي أن الرؤية المستقبلية لأمن وسلامة المنشأة لا تتحقق تلقائيا وتحتاج إلى خطط عمليات صناعية ومهنية يقوم بها محترفون صناعيون يدركون أهمية السلامة ويعملون تحت إشراف الإدارة العليا وقناعاتها. ولتحقيق مفاهيم أمن الأنظمة وهندسة سلامة الموقع وهندسة الثقة فإن ذلك نهج يتطلب العمل قبل وأثناء وبعد كافة العمليات الصناعية. ويتطلب تحقيق الأمن والسلامة وجود إدارة مهنية متطورة تراعي أهمية الحوافز للعاملين والمبدعين وتدرك مدى حالة الأمن والسلامة عبر تقييم مستمر وبأساليب تقنية وغير تقنية. كما أن خطط الطوارئ المبنية على احتمالات دقيقة وشاملة تعد من مؤشرات الإدارة الناجحة، وبالتالي يتحقق بموجبها واجبات محددة وأخرى ضمنية في مرحلة إدارة الأزمة لحظة وقوع الحوادث.
وعلينا أن ندرك أن تحقيق الأمن والسلامة الصناعية لا يعد اجتهادا منفردا من المختصين في المنشأة - رغم أهمية ذلك - بقدر ما هو تحقيق لمعايير دولية، وكذلك التزام بتطبيق الأنظمة والقوانين الحكومية المحلية التي تشرع في مجالات الأمن الصناعي والسلامة والصحة العامة وصحة البيئة. يضاف إلى ما تقدم قوانين العمل التي تفرضها المنشأة نفسها بما يلائم واقعها وأنظمتها ومعداتها وبيئتها وكل ما له علاقة بشؤون السلامة والأمن فيها، ومنها ضوابط عمل المنسوبين وحقوقهم المادية والمعنوية. ويفترض في البيئة الصناعية عدم التقليل من شأن المخاطر واحتمالات وقوعها بغض النظر عن حجم المخاطر المتوقعة، فالحوادث الكبيرة تحدث أحيانا بسبب أعطاء صغيرة. وعلينا أن ندرك أن تحديات الأمن والسلامة قد تكون أحيانا أكبر من حجم التوقعات والاحتمالات. وتعمل الإدارات الصناعية الفاعلة على توقع المخاطر وحدوث أي هجوم إرهابي أو تخريب مفاجئ أو خلل مهني طارئ؛ فتقرر إطارا عاما لردود الأفعال السريعة على شكل خطط طوارئ وإرشادات لاحتياطات الأمان تحدد جميع المسؤوليات والالتزامات ويتم تحديثها والتدريب عليها بصفة مستمرة.
وختاما، فإن عرضنا في هذه المقالة بجزأيها عن مفهوم السلامة والأمن الصناعي، ومفهوم المخاطر الصناعية والبيئية وما يتطلب ذلك من معايير ومعطيات، يجعلنا نؤكد على أن المنشأة الناجحة تجعل الأمن والسلامة مسؤولية الجميع؛ وتسعى لغرس ذلك في وعي مجتمعها بموجب برامج عمل، وليس بمجرد التوقعات وحسن النوايا، ورغم ثقتي بتوفر الكثير من لوائح وتعليمات السلامة في أهم المجالات الصناعية والبيئية والصحية، إلا أن هذا شأن إستراتيجي يستحق المزيد من تسليط الأضواء وإثارة الاهتمام. وتتحقق هذه الغاية عبر مزيد من التنسيق والمراجعة للوائح والخطط، وتحويل مضامينها إلى برامج تنفيذية، ترتقي نتائجها بمستوى وعي المجتمع؛ وبالتالي تكفلت طورا في مستويات السلامة والأمن. وليس من شك، في أن تحقيق متطلبات السلامة والأمن الصناعي في أفضل مستوياتهما، ونشر مفاهيم وثقافة السلامة وغرسها في وعي المجتمع، تعد من الشؤون الوطنية الهامة، لما في ذلك من مكاسب معنوية ومادية للوطن على المدى البعيد. فلم تتمكن الدول الصناعية الكبرى من تحقيق مكانتها وسمعتها وتميز منتجاتها، إلا بتبنيها لإستراتيجيات وطنية متكاملة في مجالات السلامة والأمن الصناعي بمفاهيمه الشاملة. وتبسيطا لهذه الغاية الوطنية الهامة، علينا أن نتذكر أننا حين نخطط للسفر نحرص على تجنب السفر عبر بعض من شركات الطيران، قناعة منا بتدني معايير سلامتها. بل إن بعض الدول الأوروبية تمنع أنواع من الطائرات من التحليق في أجوائها أو الهبوط في مطاراتها لتدني معايير السلامة فيها، مع العلم بأن دول أخرى تتدنى فيها معايير السلامة تسمع باستقبال تلك الطائرات. كما أصبح معلوما أن كثيراً من المنتجات والسلع الاستهلاكية ينظر إليها على أنها ذات معايير متدنية وصناعات مقلدة فيها من الأضرار أكثر من نفعها على المستهلك وعلى البيئة، وذلك ما يسيء إلى الدول ذات الصناعات المتدنية فتبقى في مستويات دنيا عالميا.
عضو مجلس الشورى
mabosak@yahoo.com