Al Jazirah NewsPaper Tuesday  28/10/2008 G Issue 13179
الثلاثاء 29 شوال 1429   العدد  13179
المنظور الأمني للأمن الفكري
د. وحيد بن حمزة عبدالله هاشم(*)

عادة ما تطلب تحقيق هدف الأمن الفكري العمل على مستويين متوازيين من مستويات الأمن الوطني هما: الأمن الوقائي، والأمن الاستباقي. الأول في اي مجتمع من المجتمعات المتمدنة السوية لا يقل أهمية عن الأمن الاستباقي، أو الأمن الإجهاضي أو حتى الأمن التنفيذي المباشر، وجمعيها تمثل إستراتيجية الأمن الشامل.

الأمن الوقائي يهدف إلى تحصين العقول الشابة منذ الصغر من جراثيم الانحراف الفكري سواء بتطعيمهم ضد جراثيمه بأمصال مخصصة ومتخصصة في تقوية مناعتهم ضدها. أو من خلال ضخ جرعات توعية وطنية مكثفة ومعدة بأساليب وطرق علمية عريقة في نفوس الأطفال منذ الصغر تعتمد على منطق الإقناع العقلاني وعلى الحجج الطبيعية لطبيعة الحياة الإنسانية بمختلف أوجهها ومشاكلها. أخيراً لابد من وقاية العقول الشابة وخصوصاً في مراحل التعليم الأولى من خلال منظومة تربوية وتعليمية لا يمكن أن تخترقها جراثيم الانحراف والتطرف أيّاً كان مصدرها.

أما الأمن الاستباقي فيهدف إلى استباق الحدث أو المستجدات وتوقع مؤثراتها بالتعرف على ضغوطها وخصوصاً الضغوط النفسية والعقائدية والعمل على استيعاب تلك المؤثرات والضغوط واحتوائها بمختلف أدوات وأساليب وبرامج ملء الفراغ والتركيز على توفير العديد من الوظائف والعمل والمهن التي تحقق الأهداف الإنسانية وتساعد على تحقيق الحياة السوية والمستقرة.

من هنا فإن وقاية العقول الشابة في المجتمعات الإنسانية العصرية منذ الصغر من مخاطر الاستلاب الفكري المتطرف باتت تعد مهمة ومسؤولية وطنية متكاملة وشاملة بالغة الأهمية تبدأ من الأسرة ومسؤوليات تنشئتها الاجتماعية للأطفال منذ نعومة أظفارهم، وتمر عبر المدرسة ومعلميها والمسؤولين عنها خصوصاً في المراحل التعليمية الأولى، وتنتهي بالجامعات والمؤسسات الوظيفية التي تستقبلهم بعد الانتهاء من رحلة التعليم الرئيسية.

بناء عليه فإن الحرص على وضع سياج علمية تربوية وتعليمية وقائية بالغة الدقة حول عقول الأطفال في مختلف المواقع التي ينتمون إليها لا يمكن التغاضي عن أهميتها وقدرتها على درء مخاطر وقوعهم في براثين فكر الانحراف الذي يحتضن في داخله عقلية تطرف متشددة تحرم الإنسان طفلاً كان أم بالغاً راشداً من حقوقه الإنسانية ومن كافة وسائل وأدوات تنمية وتطوير عقله ومداركه الطبيعية، في ذات الوقت الذي تدفعه لحرمان الآخرين من ذات الحقوق من خلال تبنيه لأدوات العنف والدمار تجاههم.

الأمن الاستباقي غاية تتحقق من خلال اللجوء إلى وسيلتين: الأولى، الوسيلة الاستباقية التوعوية والتثقيفية منذ الصغر لتفادي اختراق جرثومة الانحراف الفكري للعقول الشابة وتتطلب تحصينها بأمصال من التوجيه والتربية والتعليم المتعمق القائم على الحوار والنقاش بل وحتى الجدل في إطار من الاحترام المتبادل للرأي والرأي الآخر وتقبل الاختلافات في الرأي والتوجهات حتى وإن كانت جوهرية.

ويتحقق ذلك الهدف بالتركيز على تعميم منطق النقاش والحوار الوطني من بداية مراحل التعليم الأولى التي تحصن العقول الشابة من مخاطر التحيز الأعمى ومن مساوئ الفوقية ومن سلبيات الوقوع في خطأ التميز الواهم الذي عادةً ما يتمخض عنه التنطع في القول والعمل. ومن المؤكد أن تؤتي ثمار الوقاية الفكرية للأجيال الشابة مع كل مرحلة تعليمية موضوعية تنتقل في مساراتها أجيال الوطن.

الحقائق العلمية تؤكد أن التغلغل في قلوب الشباب بالقول والفعل الواقعي والمنطقي والعقلاني والبعد التام عن التناقض في الأفكار أو الأفعال أو الازدواجية في الأعمال من أهم وسائل الأمن الاستباقي التي تدمر جرثومة الاحتراف الفكري وتعميم ذلك الهدف واعتباره كضرورة وطنية حتمية حفاظاً على أمن واستقرار الأجيال الشابة التي تعد عماد المجتمع.

أما الوسيلة الأمنية الاستباقية الثانية، فهي وسيلة الضربات الأمنية الميدانية الاستباقية للعمليات الإرهابية بداية بضرب فكر الانحراف مرورا بضرب أوكاره ونهاية بضرب عناصره والقضاء عليها. وتتطلب هذه الوسيلة الرادعة تفعيل جميع القوى الوطنية المؤسساتية وغير المؤسساتية لاقتلاع مصادر الانحراف الفكري وأوكاره من جذورها واستباق تحركاته ومعرفة حركاته وخطواته من خلال سلسلة متواصلة من الأفعال المباشرة التي تعتمد على منظومة مترابطة من وسائل الاتصالات وشبكة المعلومات التي تضع في الاعتبار كافة المعلومات الواردة عن أي حركة أو شبهة انحراف وتطرف محتملة أو متوقعة.

إن مسؤولية إجهاض الفكر والسلوك المنحرف بجميع الوسائل والأدوات والإمكانيات التي تملكها الدولة لا سيما بعد أن اتضحت حقيقة تأصل جذور الجهل وتعمقها في عقول الفئة الضالة، باتت مسؤولية وطنية كلية وشاملة يشترك فيها الجميع حفاظاً على أمن واستقرار الوطن والمواطنين ومن يقيمون على أرضه أو يفدون إليها.



(*) drwahid@email.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد