عندما تكون المشكلة داخل حدود السيطرة الذهنية فإن الفرد يكون أكثر تأنياً في اتخاذه للقرارات والاستراتيجيات، وعندما تكبر تلك المشكلة وتخرج عن دائرة السيطرة الذهنية والعقلية فإن القرار والقراءة لتلك المشكلة ستكون في دائرة التخبطات والاجتهادات العشوائية، إن إدارة الأزمات هي فن لا يجيده إلا الذين تمرّسوا على تلك الاستراتيجيات والرؤى القائمة على فن إدارة الأزمات على كل الصعد، إن ما نعيشه هذه الأيام من كوارث مالية يشيب لها رأس الصبي لتجعل من الشيخ الحكيم فاقدا للرأي والصواب، كما أن الأزمات المالية والكوارث الاقتصادية لا تأتي من فراغ أو وليدة مصادفة أو حالة عرضية، إنما هي نتيجة تراكمات من الفساد الإداري والمالي وسوء التخطيط وانعدام الرقابة الصارمة القائمة على وضع الأمور في نصابها، لقد عاش العالم الاقتصادي في الحقب الزمنية الماضية اقتصادا مفتوحا تبنّت هذه الاستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية ومعها دول أوربا، وقد نظّرت تلك الدول كثيرا وسوّقت للاقتصاديات الحرة وهذا جميل، إلا أنها ومن خلال ما نعايشه هذه الأيام يتضح أن الحرية أخذت منحىً بعيدا عن الحرية وعدم الانضباط؛ مما أدى إلى مثل هذه الكوارث، وقد أصيب العالم بهزات مالية خلال الأسابيع القليلة الماضية عندما استيقظ على كوارث انهيارات العقار وسوق الأسهم وإعلان إفلاس بعض المؤسسات المالية، ومنها مصرف (ليمان براذرز) وعملية الاندماج بين (ميريل لينش) وبنك (اون أمريكا)، وكذلك تحول آخر واكبر مصرفين مستقلين في وول ستريت (مورغان ستانلي وغولدمان ساكس) إلى مجموعتين مصرفيتين قابضتين وكذلك تدخلت الحكومة الأمريكية بشكل غير مسبوق لإنقاذ مجموعة التأمين الكبرى (أيه أي جي) والشواهد حول تلك الانهيارات كثيرة، ولا يخفى على أحد عندما نادى الرئيس الأمريكي وطالب بخطة إنقاذ تقوم على إنشاء صندوق خاص بـ 700 مليار دولار لمساعدة المصارف على التخلص من ديونها المشكوك فيها، ولأن الاقتصاد الأمريكي يمثل اكبر اقتصاد في العالم إذ يبلغ حجمه إلى 14 ترليون دولار وتشكل تجارة الولايات المتحدة الخارجية 10% من التجارة العالمية؛ لذا يكون هذا الاقتصاد مؤثرا تأثيرا مباشرا على اقتصاديات دول العالم وعلى وجه الخصوص الدول النامية والمتصلة معه اتصالا (سياميا)؛ لذا فإن أهم الأسباب التي أدت إلى انهيار الاقتصاد الأمريكي أو ستؤدي به إلى ذلك إذا لم توضع خطة لمواجهة مثل هذه الكوارث، وعادة تكون الخطة الفاعلة في مثل هذه الأمور مثل ما ينادي بها كثير من الاقتصاديين وأهمها خفض معدل الضرائب، ضبط حركة الأسواق لمنع مزيد من التدهور، ضخ سيولة كبيرة لإنقاذ المصارف، والتدخل المباشر لشراء بعض المؤسسات المالية، رفع مستوى التثقيف المالي من خلال أجهزة الإعلام، فك الارتباط العاجل بالاقتصاديات المعرضة للانهيار، التواصل مع رجال المال والأعمال لعمل استراتيجية ناجحة حتى عبور مثل هذه العاصفة، أعود لبعض الأسباب التراكمية التي عجلت بمثل هذه الانهيارات في اقتصاد الولايات المتحدة، أولاً عجز الميزانية الذي بلغ في عام 2008م إلى 410 مليار دولار، المديونية التي ارتفعت من 4.3 ترليون في عام 1990م إلى 8.9 ترليون في عام 2007م، كما أن الولايات المتحدة تعاني من مشكلات أخرى في مقدمتها التضخم الذي تجاوز 4% والبطالة التي تشكل أكثر من 5% ويقول بعض خبراء الاقتصاد إن الشرارة في تلك الأزمة هي أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة، حيث خرجت ضوابط الاقتراض عن المنطق وعن الآلية المعمول بها في جميع دول العالم إلى ضوابط منعدمة، بحيث أصبح العمل هناك يقوم بعملية الاقتراض بغض النظر عن جدوى الاقتراض أو إمكانية سداد القرض كذلك عمليات التسلّح الرهيبة التي تنتهجها الولايات المتحدة التي تزيد من أعباء ميزان المدفوعات، ويقول بعض أساطين الاقتصاد انه يجب التعامل مع هذه الأزمة كما فعلت اليابان في منتصف التسعينيات عندما قامت بوضع خطة لإعادة رسملة القطاع المصرفي في الدول الصناعية، وهذا جيد في رأيي ولكن يجب أن يساند هذه الأمور حزمة من القرارات الأخرى كما اشرنا في مطلع المقال، وعن تداعيات الأزمة المالية وآثارها السالبة على العالم العربي وبالذات على الخليج العربي، يقول خبير البورصة المصري د. الصهر حتى أن هذه الانخفاضات في الأسواق المالية تبعتها انخفاضات حادة في الأسواق النامية خاصة تلك الدول (النامية)؛ كون المتعاملين فيها هم من المؤسسات المالية، واعتقد أن مساحة المقال المسموح بها لا تتسع لسرد كثير من الأحداث والأسباب والمسببات في هذه الكارثة إلا أنني أقول هنا وقبل أن اختم مقالي: إن على المؤسسات الحكومية المالية أن تكون أكثر وجودا هذه الأيام على المستوى الإعلامي المرئي والمكتوب والمسموع، وان تقوم بعقد ندوات ومنتديات ومحاضرات لكل طبقات المجتمع، لتتضامن في تلك الندوات وزارة المالية والتجارة ومؤسسة النقد والمصارف الكبيرة وعلماء الاقتصاد والباحثين في هذا المجال والبرامج التلفزيونية والإذاعية وكذلك الإعلام المكتوب حتى تصل المعلومة للمجتمع بشكلها الصحيح بعيدا عن التعقيد والتنظير، أو الرسائل التطمينية المختزلة التي تقوم على أن الوضع جيد وليس هناك خوف من هذه الأزمة. هذا الكلام في رأيي لا يفيد ولا يؤدي إلى نتائج ناجعة، نرجو من المسؤولين توضيح الأمور بشكل مبسط ومقنع ليفهمه رجل الشارع والمثقف، وان تكون هناك خطوط هاتف مباشرة في كل الجهات المعنية ليستطيع المواطن من خلالها أن يطّلع على كل المعلومات والمستجدات التي تتسارع هذه الأيام على المستوى العالمي بشكل يسبب الذعر والخوف، وقبل أن اختم هنا لا أنسى أن اذكر أن هذه الكوارث المالية التي حدثت خلال أسابيع وما زال الخطر محدقا، تعود بنا إلى الكساد الكبير الذي حدث في عام 1929م، حيث تتذكر إحدى الأمريكيات واسمها هيلن وعمرها 84 عاما عندما تقول إنها حاولت سحب رصيدها من البنك البالغ 50 دولارا وخرجت من البنك بدولارين، وقد سببت تلك الأزمة في حينها (عام 1929) بكساد كامل أفقر المزارعين وزاد معدل الفقر والبطالة، وكذلك خسرت كثير من الأسر مصانعها وتجارتها وأملاكها وساد البلاد حالة من الفقر والجوع والبطالة، آمل أن تنقشع الغمة وتنفرج الكربة والجميع بخير وبأقل الخسائر، وهنا اذكر قبل الختام انه لكل مصيبة تحدث هناك مستفيدين من تلك المصائب وسأعود لاحقا بشيء من التفصيل حول الحلول الناجعة لتخطي هذه الأزمة ومدى أثرها في اقتصاديات العالم العربي.
كاتب سعودي
Kmkfax2197005@hotmail.com