يُعرف مجتمع الأعمال ب(التجار) مهما كانت السوق التي ينشطون بها، تجارية كانت أو صناعية أو زراعية أو معلوماتية، إلى غير ذلك من الأسواق، وعليه فالتجار هم من يوفرون السلع والخدمات بأسعار معينة للمستهلكين من سكان القرية أو المدينة أو المنطقة، ضمن بيئة يفترض أن تكون تنافسية عادلة، تحت مظلة الحكومة بتنظيمها وحماية المتعاملين فيها وتحفيز المستثمرين للاستثمار فيها.
والتجار الحقيقيون هم أولئك الذين يدركون أهمية المحافظة على سوقهم التي يعملون بها وتنميتها على نفس الدرجة من تنمية تجارتهم، على اعتبار أن كساد سوقهم أو تباطؤ نموها سينعكس عليهم سلباً بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهذا ما لا يدركه الدخلاء على الأسواق الذين لا يهمهم سوى الكسب الكبير والسريع وإن كان على حساب السوق والمتعاملين فيها، فهم أصحاب نظرة قصيرة لا تتعدى موضع أقدامهم بخلاف التجار الحقيقيين، خصوصاً أولئك الذين يعود موروثهم التجاري لعدة أجيال مضت.
التجار الحقيقيون أيضاً يرون أنهم جزء لا يتجزأ من المجتمع والوطن ككل، فتراهم يهتمون بكل كبيرة وصغيرة تتعلق بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية في البلاد؛ فهم يؤمنون بأن أدنى مستويات مسؤولياتهم تجاه المجتمع تتمثل بعدم ممارستهم لأعمال منافية للأخلاق أو النظام، كما يرون أن من واجبهم التعاون مع الجهات الحكومية المنظمة لتحسين البيئة الاستثمارية، من خلال تطوير منظومة التشريعات والأنظمة واللوائح والإجراءات، بما يسهل العملية الاستثمارية ويقلل التكاليف، وينعكس إيجاباً على كمية وجودة المعروض من السلع والخدمات، إضافة إلى كل ذلك فهم يرون أن عليهم مسؤولية تجاه القضايا المجتمعية مثل الفقر وارتفاع معدلات الجريمة والمشاكل الاجتماعية والصحية والأمنية، فتجدهم يبادرون في تأسيس ودعم الجمعيات الخيرية ومؤسسات المجتمع المدني للمساهمة في معالجة هذه المشاكل والحد من آثارها.
وعند التأمل في أكثر تصرفات رجال الأعمال فإنني أجد من خلال التجربة، ودون شك، أن التاجر الحقيقي، الذي له باع طويل في قطاع الأعمال وربما ينحدر من أسرة تجارية عريقة، أجده يتحلى بقيم الصدق والأمانة والبساطة أيضاً، فلا تجد لديه مصطلحات اقتصادية إنجليزية فخمة وفلسفة مبالغاً بها، بل يطرح ما لديه بكل بساطة وعفوية ووضوح، بينما حديثو التجار القادمون إلى هذا العالم من خلال المصادفة أو الصعود على أكتاف الآخرين تجدهم في غاية الكذب والخداع والبهرجة الجوفاء التي ليس لها أصل.
يقول سليمان الراجحي الذي رفد الاقتصاد السعودي بمؤسسات تنتج السلع والخدمات رغم قلة ربحيتها مقارنة بتجارته المالية (إن رجل الأعمال الحقيقي ليس من يحمل شنطة ويسافر من بلد إلى آخر ومن اجتماع إلى آخر، بل هو من يقدم منتجاً حقيقياً يسهم في خدمة وطنه، ويدعم اقتصاده، ويعمل بصدق وشرف وإحسان)، وأذكر أن عمي إبراهيم العُمري - رحمه الله - وقد كان مثالاً للتاجر المتسامح، يقول: من لا يملك شيئاً لا يخسر شيئاً. يقصد بذلك أن الفقير لا يخسر مالاً لأنه لا يملكه أساساً، فعلى التاجر الحقيقي أن يكون متسامحاً ولا تغضبه الخسائر أو التنازلات فهي ضريبة أن تكون مالكاً للمال أو لا تملكه، والأمثلة كثيرة ولا حصر لها، ومن شاء أن يدرك من هم التجار فلينظر في أسماء أعضاء مجالس أمناء الكثير من مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الخيرية وأكبر الداعمين لها.
ورغم ذلك فإنه يتملكني العديد من الأسئلة حول أخلاق التجار ورجال الأعمال، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: هل يمتلك معظمهم صفات الفضيلة كالصدق والأمانة؟ وإذا كان ذلك فلماذا يسود انطباع لدى غالبية الناس أن التجار يفتقرون للأخلاق ويتجاوزون الأنظمة ويمارسون كافة أنواع الأنشطة التجارية بروح جشعة ويغلّبون مصالحهم الشخصية على كل المصالح بما في ذلك مصلحة الوطن الذي ينتمون إليه؟ ولماذا يطلق الكثير من الناس صفات الجشع والانتهازية والغش على التجار؟! والقصص كثيرة حول ألاعيب وكذب وجشع بعض مَن يسمون أنفسهم تجاراً، حتى أن مصطلحات غريبة مثل (تنفيذ تجاري) ويقصد به سوء الجودة لأنه تم إنشاؤه بهدف البيع لا السكن وعكسه يسمى (تنفيذ خاص) أي أن المطور أنشأه ليسكنه! ومن تلك القصص ما قام به تجار المواد الغذائية والأدوية والحديد، حيث تحولت أساليبهم إلى المضاربة والتخزين واستغلال الارتفاع في الطلب وقلة المعروض، عدا عن الصورة الذهنية الأسوأ التي صورها الإعلام من خلال الانهيار في سوق الأسهم السعودية والمساهمات العقارية المتعثرة.
بحسب الدراسات فإن 90 بالمائة من البيوت التجارية تنتج تجاراً، والحقيقة أنني لست أطالب بأن تقتصر التجارة على البيوت التجارية، بل أتمنى أن تتضاعف هذه البيوت، وأن ينتجوا لنا جيلاً تجارياً يعمل بلغة عصره، عبر ثقافة العمل المؤسسي، وتقديم المنتجات الحقيقية والابتعاد عن المضاربات، وأن يتم تربيته على الثقافة القرآنية في الآية {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ}والآية {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}مع الاستفادة مما وصل إليه العلم الإداري الحديث، وعمالقة قطاع الأعمال ك(وارن بوفيت وبيل قيتس وجاك ويلش) وأساتذة العلم الإداري، وعلوم القيادة والنجاح والتفوق ك(ستيفن كوبي وبيتر دركر وغيرهم) مع الاستفادة من التجارب المحلية العريقة والتعلم من البيوت التجارية وأساتذة القيادة والإدارة كالدكتور طارق السويدان، كما أنني آمل أيضاً من رجال الأعمال الحقيقيين القيام بتحويل أعمالهم الاجتماعية والخيرية إلى أعمال مؤسسية، وتقديمها إعلامياً بمستوى احترافي كما تقوم به برامج عبد اللطيف جميل لخدمة المجتمع لتدوم، ولتكن هذه هي الأوقاف الدائمة التي سيكون لها الأثر في الاستدامة وإفادة المجتمع والاقتصاد الوطني كما الفائدة الأعظم في الدار الآخرة، ولتكن على منهج (أعطه فأساً ليحتطب) كما أنها ستسهم بشكل كبير في تحسين الصورة الذهنية لدى العامة في أن هذا هو التاجر الحقيقي (فأما الزبد فيذهب غثاءً، وأما ما ينفع الناس فيبقى).
كاتب ورجل أعمال
majed@alomari.com.sa