في أوائل السبعينيات الميلادية، كنت وعلى مدى أربعة أشهر، أذهب كل أسبوع تقريباً من الرياض إلى القويعية وبالعكس. كانت الرحلة تبدأ من سوق الملح في الشميسي القديم، وتنتهي قريباً من مستشفى القويعية، كل هذه المعلومات ليست المقصودة بهذا الكلام، إنه فاتحة شهية لا أكثر، أما المهم فهو ما كان يحصل خلال تلك الرحلات المكوكية قولاً وفعلاً، فقد كانت السيارة من نوع يطلق عليه (بكس أبلكاش) قوية ومطعمة بالخشب، وتحت هذه السيارة كمية وافرة من ألواح الحديد، لتوضع خلف أو تحت العجلات، عندما تغرز السيارة في الرمال، التي تواجهنا عادة بعد مدخل المزاحمية، بخمسين كيلا من طريق ديراب الحاد الانحدار، كنا نساعد السائق في تجاوز محن التغريز، وندفع له فوق ذلك أجرا، في العادة تكون السيارة مليئة بالركاب والخضار والفواكه، خصوصاً البطاطس والطماطم والبصل وعلب التونة، هذه المواد غالباً ما تكون محجوزة سلفاً لمن طلبها، فلم يكن في القويعية مكان أو سوق لبعض هذه المواد التموينية، وأنا شخصياً، لم أكن أنسى نفسي فشنطتي لا توضع في السيارة الأبلكاش إلا بعد تعبئتها بعلب التونة والمكرونة التي كنت أجهزها بطريقة عجيبة يحسدني عليها طهاة أفخر الفنادق والمطاعم، ولولا انقراض المواقد التي تشغل بالكيروسين (لأنني لا أجيد الطبخ على غيرها!) لقدمت وجبتي ضمن برنامج طبق اليوم التي يتسابق الآن على تقديمها النجوم وليس الطباخين في العديد من البرامج التي تطلق عبر الأطباق اللاقطة، لكن هذه الوجبة ليست المشهد الوحيد أو العادة الوحيدة في مستقري في القويعية، لذلك أتركها وأبقى في الصحراء، التي تقطعها سيارة الأبلكاش في ثلاث ساعات، وكنا نصل إلى مستقرنا وكأننا خارجين من القبر!
لا تعدم هذه السيارة بين ركابها واحدا من هواة صيد الضبان، وأبرز هؤلاء الهواة سائق السيارة نفسه، الذي لا يكفيه تغريز السيارة أكثر من مرة في كل رحلة، فيقف بعنف حالما يلمح ضبا أو جحرا لضب، لتبدأ مرحلة شاقة، وهي إخراج الضب من الجحر أو دفعه للخروج، من خلال مد ماسورة بلاستيك موصولة بشكمان السيارة، ومن خلال دفع الهواء الحار إلى مخبأ الضب غالبا ما يخرج هذا الحيوان الشرس، وليست كل الضبان قادرة على اللجوء إلى الجحر أو الحفرة الممتدة في باطن الأرض، فبعضها تطاردها السيارة وبعضها يتم وضع اليد على رقبتها في غفلة تامة، ولم نكن نعود إلى الرياض أو القويعية إلا بصحبتنا مجموعة من الضبان، ماذا يفعل بها السائق؟ هناك من يجزم بأن السائق يعرضها للبيع في المكان الذي يصل إليه، وهناك من يقول إنه يطبخها، لكن المؤكد أن السائق كان ماهراً في صيد الضبان، فقد كان صبره وفيراً، وكان ذكياً في استخدام من معه من الركاب في المساعدة وتربيط الطرائد. كنت أقف بعيداً عن السيارة، وبعيداً عن طريق الضبان المذعورة، وبعيداً عن المكان الذي يودع فيه السائق صيده، وقد بقيّ في ذهني سؤال حول شعور من يأكل الضب، هل يشعر بالقلق بعد مرور وقت على التهامه للحم الضب؟ ألا يراوده قلق من خلو لحم الضب من السموم؟ فقد راودني القلق عندما وقفت على تجهيز وجبة عشاء من لحم الضب، فبعد سلخه وتنظيفه وضع في القدر، كانت الماء تغلي وكل قطعة من الضب كانت تنبض، استمر نبض القطع وقتاً طويلاً لا يمكن أن يحدث لأي كائن حي بعد ذبحه، من الدواجن إلى الطيور والمواشي، ذلك المنظر جعل بيني وبين الضب علاقة مزدوجة إعجاب بقوته وشراسته بحيث لا يسلم نفسه بسهولة أو استسلام وخوفاً من لحمه وشكله، ومع كل هذه المزايا والعيوب إلا أنه مازال صيداً ثميناً يتعقبه الهواة إما لأكله وإما لبيعه لكن هل تغيرت الوسائل؟ وسائل الصيد ووسائل الطبخ ووسائل التسويق؟!
فاكس: 012054137