رغم كل الدلائل التي تشير إلى أن باراك أوباما في طريقه إلى البيت الأبيض، وهذا ليس تنبؤاً أو استباقاً للنتائج، فأنا لا زلت مصرَّاً على أن الصحفي لا يمكن أن يتلبس ثوب (العراف)، ومثلما قيل بأنه (كذب المنجمون ولو صدقوا) فإن الصحفيين لا يمكن أن يصدقوا في تحديد من يفوز اليوم في انتخابات الرئاسة الأمريكية، وعوضاً عن ذلك تلجأ الصحف والمواقع الإلكترونية، ومحطات التلفاز إلى أسلوب استطلاع آراء الناخبين بعد إدلائهم بأصواتهم، وبعد مغادرتهم مراكز الاقتراع.
توظف موارد هائلة للإعلان عن أي من الولايات صوتت لمن، حالما تغلق صناديق الاقتراع. وبعملها ذلك فإنها تلتبس في خط ضيق بين المنافسة التي لا نهاية لها لتكون السباقة في إصدار الخبر وبين الرغبة في تفادي الأخطاء وتتراجع عن كلامها.
ولم تكن هناك انتخابات أميركية تجلت فيها هذه العيوب مثل ما تجلت في انتخابات العام 2000 الرئاسية بين الرئيس الحالي جورج دبليو بوش ومنافسه آنذاك الديمقراطي آل غور. وفي ذلك السباق حينما أصبحت نتيجة التصويت في فلوريدا الكلمة الفصل تحقق مشاهدو التلفزة من إعلان وسائل الإعلام بأن ولاية فلوريدا كانت من نصيب غور بعيد إغلاق صناديق الاقتراع مساء يوم السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر، ثم تراجعت هذه الوسائل عن كلامها وأصبحت فلوريدا من مكتسبات الرئيس بوش بعد ساعات قليلة. ثم أوحت وسائل الإعلام أن نتائج السباق كانت متقاربة لدرجة بحيث تعذر الجزم بفائز في الساعات الأولى من صباح 8 تشرين الثاني/ نوفمبر.
ويشرح ستيفن كوفمن المحرر في موقع أمريكا دوت غوف بأن استطلاع الناخبين لدى مغادرتهم مراكز الاقتراع يشمل مقابلات تجريها6000 مؤسسة مستطلعة للآراء في جميع أنحاء أمريكا على عينة من الناخبين. ويسأل هؤلاء لمن صوتوا، وتجمع وتصنف بيانات عن جنسهم وأعمارهم وعرقهم وغير ذلك من أمور تتصل بخيار الناخب في مختلف الانتخابات. وطبقاً لموقع إديسون الإلكتروني فإن الدوائر التي يتم فيها اختيار عينات الناخبين تستند إلى عوامل مثل خصائص التصويت السابقة والديمغرافيات الحزبية والعدد الإجمالي للناخبين.
وبوجود عدد كبير من الأميركيين الذي يختارون أن يدلوا بأصواتهم في وقت مبكر يسبق يوم الانتخابات تعكف مؤسستا إديسون وميتوفسكي على جمع بيانات قبل يوم الانتخابات من خلال مكالمات هاتفية لا سيما في الولايات ذات النسبة الأكبر من الناخبين المبكرين.
وتقوم المؤسستان المذكورتان أيضا، وبإشراف مجموعة الانتخابات القومية، بتقييم نتائج استطلاعات الناخبين لدى مغادرتهم لأقلام الاقتراع وتصدران توقعاتهما وتوفران كل نتائجهما للمؤسسات المشتركة ابتداء من الساعة الخامسة عصرا بتوقيت شرقي الولايات المتحدة، وذلك بعد عزل أعضائهما معظم نهار الانتخاب منعا لإصدار معلومات سابقة لأوانها.
ولدى اتصاله بعدد من شبكات التلفزة لتبيان متى وكيف تقرر دوائر الأخبار فيها أن تحسم نتيجة السباق، كشف موقع أميركا دوت غوف أن الكثير من الآليات الداخلية التي تسخرها شبكات الإعلام لصنع القرار هو سر غير مباح، وذلك بسبب المنافسة الشرسة بين شبكات التلفزة. ويبدو أن هذه العملية هي ممارسة في الترجيحات والتوقعات وتستند إلى خليط من نتائج استطلاعات رأي الناخبين بعد الإدلاء بأصواتهم وتقارير واردة من المقاطعات والدوائر الانتخابية، وإحصاءات وتحليلات للديمغرافيات ومسائل تؤثر على تصويت السكان المحليين.
ومن المعروف أن كل شبكة تلفزيونية أو إعلامية تود أن تكون السباقة في إعلان الفائز لكن المذيع السابق في سي بي إس دان راذر أبلغ مشاهديه في العام 2004 ما يلي: (نفضل أن نكون آخر من يعلن الفائز عوضا أن نكون مخطئين). كما أن شبكات الأخبار مدركة أن إعلان ولاية ما من نصيب مرشح دون الآخر في شرقي البلاد؛ حيث تكون مراكز الاقتراع قد أغلقت أبوابها في حين يكون التصويت مستمرا في غربي البلاد سيؤثر على النتيجة.
في العام 2000 وبعد أن ألغت شبكة إن بي سي إعلانها الثاني عن الفائز في ولاية فلوريدا أقر مذيعها توم بروكو بالقول: (نحن لم يلحق بنا عار فقط، بل كامل العار أيضا). ويقيناً فإن فترة المساء من يوم 4 (أمس) وساعات الصباح الأولى من (اليوم) ستكون ليلة يخيم عليها قلق بالغ بالنسبة لفرق المحللين الإعلاميين وهم يكافحون بين ضغطين توأمين لإعلان نتائج صحيحة وبنفس الوقت البقاء في وضع منافس، وهذا ما حاولوا تحقيقه ليلة البارحة وهو ما يشكل إغراء ما نسميه في عالم الصحافة ب(السبق الصحفي)، ولكن في نفس الوقت ينتصب الخوف من (عار الخطأ) ليمنع الصحفيين من التهور..!
jaser@al-jazirah.com.sa