ما من شك أن النسق المعاييري ومبادئ الأخلاق المستمدة من الأصالة العقدية هي المحدد الأساسي لسلوك التفاعل بين الفرد وغيره وبينه وبين جماعة القرابة وجماعة المحيط، وبين جماعة وأخرى في الإطار المجتمعي.
ويتمثل عظم الحضارية في مدى التوازن الانسجامي بين شطريها المادي والروحي التي ينتج عنها الروح الحضارية وأحد معالمها البارزة سواء السلوك التفاعلي.
أما اللاسواء السلوكي فليس هو الحيدة عن خط السواء فقط بل هو انعدامية التوازن بين قوى الخير والشر مما يؤدي إلى اضطراب الروح الحضارية، وتقويض دعائمها المتمثلة في الإدارة الحرة والإنسانية في التناول والتفريد في العطاء والوعي الاستجابي والتخلق الديني.
إن اللاسواء السلوكي خارج نطاق الروح الحضاري لتغليب جانبها المادي على الجانب الروحي بدءاً من الاستحواز اللامعقول على الماديات مروراً بإشباع الرغبات والأهواء، والخروج على القواعد والمثل التي أكدها منها الرسالة السماوية منذ نقلها المبعوث لهداية البشر محمد- صلى الله عليه وسلم- متمماً لمكارم الأخلاق.
وحيث كان خلقه القرآن، بل كان قرآناً فكراً وممارسة وأداء يتفاعل به مع الناس ومع قوى ومكونات المجتمع الإنساني الشامل بغرض تفعيل القيم الإسلامية ومناهضة قوى القهر والاستبداد والعنف والطغيان، وذوي النزعات اللاسوية والعدوانية البغيضة في التواصل مع غيره.
هذا في الوقت الذي ينتظم فيه السلوك في المنهج الإسلامي في منحاه السوي على الترقي في مدارج التسامح - والقبول - والرضا - والصبر - والدفع بالتي هي أحسن، والتعاون على نشر مساحة البر بالإحسان، والتأني عن دوائر الصراعات، والمساهمة في إرساء قواعد الأمن والسلام.
إن تقدم الجانب المادي في الحضارة ذلك الذي نعني به حالة فعل التحضر وتطوراته غير المسبوقة فها نحن نشهد طفرة معمارية، وتوسعات إنشائية وتقسيمات في المدن، وتعبيد الطرق، وتحديث البنية الأساسية وللمنشآت الخدمية، والاستخدامات التكنولوجية ومسايرة طفرة المعلومات والاتصالات والأقمار الصناعية والفضائيات والاستخدامات الشمسية والتجربة العملاقة ومشتقات البترول وزراعة الصحراء.. الخ من مستجدات وإنجازات العصر..، ولكن لا نستطيع أن نتجاهل بأي حال من الأحوال الجانب الروحي وانعكاساته على السلوك الذي يمثل ديمومة النشاط الفاعل واستمرارية التواصل، وتحولاته تبعاً لتطورات الزمان والمكان.
هذا لا يغنينا عن توجيه السلوك ليتواءم مع خصائص وثقافة مجتمعنا والعمل باستنارة وتعقل لضبط السلوك حتى لا تضطرب خصائص وثقافة المجتمع تحت وطأة العصرنة والعولمة التي تختلف بالطبع في خصائصها عن خصائصنا وفي تحولاتها الثقافية عن ثقافتنا، نحن لا نقصد أن ندير ظهرنا عن مستجدات العصر ولكن نتحسب لتأثيراتها في سلوك أبناء مجتمعنا فتدفع بهم للتماهي ومن ثم فالشطط عن خط السواء السلوكي، ونتحسب لمردودها السلبي في الخصائص الثقافية والاجتماعية.
وليس ثمة جدل في أنه سلوكيات بعضنا في مجتمعنا قد نالها التحول سلباً بفعل ما تنقله الفضائيات، ووسائل الإعلام المرئي والمقروء والمنقول عن هوية غير هويتنا، وعن خصوصية ثقافية غير خصوصيتنا، وعن قيم دينية غير قيمنا.
فإذا كان هذا هو واقع التقدم المادي والروحي للحضارة، وإذا كنا نواجه تحديات تغليب الجانب المادي على الجانب الروحي، وإذا كنا نستشرف مستقبلاً يموج بمتغيرات وأحداث قد لا تتفق مع خصائص حضارتنا، وقد لا تتلاءم مع هويتنا الثقافية وثوابتنا الدينية، فماذا علينا أن نفعل في مواجهة تحديات عالم اليوم؟ وماذا بنا لتقويم مسلكيات من حاد عن خط السواء السلوكي لتعزيز المبدع بغية تحقيق ما نطمح إليه من مكانة لائقة في عالم اليوم؟ وماذا لنا من عوائد العولمة في الآن وفيما هو آت في جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية نظرا لأن هذه الجوانب متداخلة ويؤثر كل منها في الآخر، وهذه الجوانب مجتمعة لها تأثيرها الفاعل على سلوك الناس، وعلى اتجاهاتها الفكرية وعلى تقاليدهم الاجتماعية وعلى توجهاتهم الاجتماعية، وعلى خصائصهم النفسية وعلى سلوكياتها التفاعلية.
ولعلنا الآن ندرك أن أشد وأقوى التأثيرات الثقافية والاجتماعية يتوجه على نحو مقصود للنيل من الهوية الحضارية ولخلخلة الترابط الاجتماعي والعمل على تسيب وانفلات أعضاء الأسرة، لما لذلك كله من تأثير ضاغط على أنماط الشخصية وما يرتبط بها من مناحي السلوك وطمس دائرة السواء وتعزيز دائرة اللاسواء السلوكي مما يؤثر في عوامل النهوض والارتقاء ويغرس عوامل الإحباط في أفراد والقوى الفاعلة في المجتمع.
ويتوجب إذن على علمائنا الأفاضل وقادة الرأي وأصحاب الفكر أن يعملوا جاهدين لصيانة مسلكيات بناة للمستقبل وتوجيههم لسواء السبيل والأخذ بأيديهم لبر الأمان بتصحيح مفاهيمهم المغلوطة ومسلكياتهم الهوجاء.
وأخيراً نقول: إن من يتجاوز الإشارة الحمراء ولا يقف في طابور الخدمات ومن يبصق على الأرض، ومن يرمي المخلفات عن طريق زجاج السيارات فهذا مخالف للحضارة والتحضر لأن الحضارة سلوك وقيم.
ونسأل الله أن يلهمنا الرشد والصواب.