ينصح خبراء علم النفس بكتابة المذكرات بشكل متواصل لمحاسبة النفس يومياً، خصوصاً إذا كان الإنسان صادقاً في ما يكتب، فيذكر مثلاً أنه أخطأ في حق جاره في هذا اليوم أو تسبب لغيره في مشكلة أو أهان حبيبته وجرح مشاعرها.
يفسح تدوين الملاحظات المجال أمام المرء ليعيد ترتيب أوراقه ويعمل على تصحيح أخطائه. فهو إذا أسلوب علاجي يرمي إلى أهمية تدوين المذكرات بصفة يومية لأن هذا الأمر يسهم في تعويد الإنسان على ممارسة حياته بانتظام وترتيبها ويجعله أكثر إدراكاً لنفسه وللمحيطين به ولحقوقه وواجباته.
تستخدم الاتجاهات الحديثة في علم النفس أساليب علاجية من هذا النوع لمرضى الاكتئاب والقلق والوسواس القهري وغيرها من الأمراض النفسية. سواء كان علاجاً فردياً أم جماعياً، تعتمد الفكرة على أن يفرغ المريض ما بداخله من شحنات سالبة من خلال ما يكتب من مذكرات يومية في سجل خاص، إذ يساعده ذلك في تغيير أسلوب حياته إلى الأفضل. حينما يكتب في مذكراته أنه تسبب في توريط أحد أصدقائه في مشكلة كبيرة مثلاً، يكون هذا الاعتراف الذي يكتبه بخط يده وبإرادته الحرة أول الطريق نحو تعديل السلوك إلى الأفضل. يمكن أن يتم هذا الأسلوب العلاجي بصورة جماعية من خلال تبادل المرضى سجلات مذكراتهم فيما بينهم وإجراء مناقشات حولها بإيجابياتها وسلبياتها وبالتالي تفادي السلبيّ والتركيز على الإيجابيّ.
ولا يقتصر هذا الأمر على المرضى النفسيين فحسب بل يمتد ليشمل الجميع، المهم ألا يجامل الشخص نفسه أو يحاول، وهذا يحدث في الغالب بطريقة لا شعورية، تحسين صورته أمام نفسه كنوع من أنواع تحقيق الرضا النفسي. لكن من الضروري جداً أن يسجل الإنسان في هذه المذكرات أخطاءه وهفواته وزلاته بشكل موضوعي حتى يتمكن من قراءة ذاته صحيحاً، فهذا أمر صحّي للغاية وينصح الجميع بمزاولته يومياً نظراً إلى النتائج الإيجابية التي من شأنها توفير المزيد من الشعور بالرضا والاستقرار النفسي.
تسجيل المذكرات اليومية أمر مهمّ جداً بالنسبة إلى أيّ إنسان وهو كذلك في غاية الأهمية بالنسبة إلى الأديب المبدع، السياسي المحنك، التاجر النشط، الإداري الناجح، القائد القلق وهكذا.. لأنه يتعرض في حياته إلى مفارقات ومتناقضات وحالات إنسانية غير متكررة
كنت في حضرة أحد الأصدقاء الأجلاء الذي اتجه بحديثه إلى كتابة المذكرات لاعتقاده أن هناك سناً معينة لكتابة المذكرات، تلك السن التي يملؤها التجارب والمواقف والعبر حتى يستفيد منها القارئ، وهو يفترض أن أفضل سن هو بين السبعين والتسعين حينما يتفرغ الرجل من عمله إلى كتابة مذكراته، فسألني من باب الدعابة وكأني به يود إغاظتي بوصولي لتلك السن إن كنت أكتب مذكراتي، أجبته بما معناه، إذا كانت كتابة المذكرات تعني تسجيل كل ما يحدث يوميا هاماً أو غير هام، فلست أكتب مذكرات. فمعروف أن من يراجع مذكرات الكثير يجد فيها تفاصيل قد تكون هامة وقد لا تعني شيئا.
إن كنت قد بدأت أكتب ما يسمى بالمذكرات فأنني ألجأ إلى كتابتها بما يعرف باليوميات بعد أن شعرت بأنني أصبحت أتحدث إلى نفسي أكثر مما أتحدث إلى الآخرين. لقد أصبحت ضجراً من مجتمعات الناس، سريع السأم من الآخرين حتى ليخيّل إليّ أحياناً أن تبادل الأحاديث هو من أسوأ عادات الإنسان، يتحدث الناس عندما يعجزون عن التفكير الواضح، ولا يحسنون القيام بعمل مفيد، وما أظن أنّ في العالم مجتمعاً فيه مثل هذا العدد الوفير من الثرثارين الذين يلوّنون الفضاء بعبث الكلام، إنهم يكررون الحديث الواحد ألف مرة، وتتعب الكلمات ولا يتعبون.
أعرف أنني أحاول أن أسوّغ عزلتي وصمتي، وفي كثير من الأحيان أحسّ أنني فقدت القدرة على أن أكون محدّثاً عادياً على الأقل، ولكنّي مع ذلك أحسّ برغبة شديدة في الحديث إلى نفسي، ومن ثمَّ تبدو لي هذه اليوميات شيئاً ضرورياً كالغذاء والهواء، يجب أن تكون للإنسان زاويةٌ صغيرة في إحدى ساعات الليل ينتشل فيها خواطره الدفينة قبل أن تصبح جانباً من عالمه الداخلي الحزين.
لقد سألت نفسي ذات يوم لماذا هممت بكتابة يومياتي أو ما يعرف بمذكراتي ولم أجد سبباً، أعلم يقيناً أن من يكتب مذكراته هو من ترك العمل وتفرغ لكتابة مذكراته لقضاء وقت فراغه بما يفيده وهو الذي قضى عمر زمني كاف ليكتب مذكراته من مئات الصفحات قياساً بما عاشه من مواقف وأزمنة مرت عليه وعاشها وتجارب مر بها قد يستفيد منها الآخرون، أما أنا وفي هذه السن بالذات والتي لم يرق لصديقي أنني بدأت بكتابة يومياتي بحجة صغر سني وقلة تجاربي وهو القريب العارف المطلع على الأمور والذي يدرك تماماً أنني لو رغبت استكمال هذه اليوميات أو المذكرات لكتبت مئات الصفحات فقد مررت بتجارب قاسية ومواقف لا يمكن نسيانها حتى لو كانت في عشرين أو ثلاثين سنة، فيها الكثير من شرور الأنفس ومن حقد الذات ومن حسد الحاسد الذي لا يرضيه إلا زوال النعمة، لقد تعرضت لمواقف سأسرد تفاصيلها بدقة حتى أثبت فقط لمن ينادون بضرورة عدم كتابة المذكرات لمن لم يصل إلى سن معينة لفقر تجاربهم وخلو مواقفهم من المفيد، فالتجارب عزيزي القارئ يمكن أن يتم استقصاؤها من شباب لم تتجاوز أعمارهم العقدين أو الثلاثة ولم يكن يوماً ضرورياً أن أقف على عتبة التسعين حتى أبدأ بكتابة مذكراتي.
إلى هذا الحد أكتفي وربما إن شاء الله أتذكر المزيد النافع. لكنني على قناعة حتى لو كنت في منتصف العمر الافتراضي لصاحبنا حتى أستطيع كتابة مذكراتي، إن الحضارة عبارة عن ورقة وقلم.
dr.aobaid@gmail.com