إنّ الحج بشعائره العظيمة وأحكامه الزمانية والمكانية يمثل مدرسة تربوية عملية للمسلمين، ففيه تعليم وتربية للنفس على القيم الأخلاقية والمعاني الإنسانية والمشاعر الإيمانية التي قصدها الإسلام في كثير من أحكامه، وهو تطبيق عملي ومؤتمر تربوي وموسم تعليمي من مسؤولية الأمة المسلمة أن تستفيد منه وأن تحقق فوائده ومنافعه، وكل ذلك ينعكس أثراً ونتيجة على سلوك وتربية الإنسان المسلم، وبالتالي على حياة المجتمع الإسلامي، ولعلِّي أن أبرز في هذه الكلمة بعض الأبعاد والمناهج التربوية لهذه الفريضة العظيمة.
أولاً: التربية على الإخلاص لله وعبادته وحده لا شريك له، وهذا هو الأساس الذي خلق الله سبحانه وتعالى الخلق من أجله قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{، وهو القاعدة العظيمة التي أمر الله سبحانه وتعالى بها نبيّه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام عند بنائهما للبيت قال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ{، وقد نقل ابن كثير في تفسيره لهذه الآية ما رُوي عن عُبَيْد بن عُمَيْر وأبي الْعَاليَة وسعيد بن جُبَيْر ومجاهد وعَطَاء وقُتَادة أنّ في قوله تعالى: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ{ أيْ بلا إله إلاّ الله مِن الشِّرك، وهذا ما يجب أن يحققه المسلم إذا قصد هذه الديار المقدّسة متجرّداً من أغراض الدنيا وحظوظ النفس وشهواتها، لتكون غايته عبادة الله وطاعته والامتثال لأمره سبحانه، والطمع في مرضاته جل في علاه. وهذا فيه بُعدٌ تربوي ذاتي يتمثل في أهمية تربية النفس البشرية على إخلاص النية وصلاح الطوية في جميع الأقوال والأعمال فرديةً كانت أو جماعية.
ثانياً: تربية النفس على تنفيذ العمل وفق المنهج الصحيح ولزوم السنّة ويتمثّل هذا البعد التربوي عندما يقوم المسلم بأداء المناسك وفق ما أمر الله به سبحانه وتعالى وبيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلِّي لا أحج بعد حجتي هذه).
وهذا الإتباع للسنّة النبوية يستلزم سؤال أهل العلم الموثوق في علمهم ودينهم وأمانتهم، ومعرفة الكيفية الصحيحة لأداء المناسك والشعائر المختلفة، والبُعد عن البدع والمحدثات، وتصحيح الأخطاء التي يقع فيها كثير من الحجاج بسبب تقصيرهم في هذا البُعد التربوي.
ثالثاً: في الحج تربية للنفس على وجوب الأدب والاحترام والتزام الحدود فإنّ الحاج مأمورٌ بتعظيم حرمات الله والتزام الأدب مع خالقه قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ{، وقال تعالى: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
كذلك فإنّ الحاج مأمورٌ بالتزام الأدب في التعامل مع غيره قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ{ وهذا فيه بُعد تربوي إنساني اجتماعي يفرض على الحاج والمعتمر أن يكون في رحلته إلى هذه الديار المقدسة عاقداً العزم على تعظيم حرمات الله تعالى، وعدم إيذاء من فيها من الكائنات، وما فيها من المكوّنات بما في ذلك الصيد، وقطع الأشجار، وكل محظورات الإحرام وعدم إيذاء غيره من الحجاج سواءً بسبهم أو شتمهم أو الخوض فيما لا فائدة فيه.
رابعاً: في الحج تدريب للنفس على الانضباط والتزام النظام البُعد عن الفوضى وهذا البُعد التربوي ظاهر في الحج كله ابتداءً من الإحرام إلى بقية المناسك، فعلى الحاج أن يلتزم بالإحرام من المواقيت المكانية ولا يجوز تجاوزها بغير إحرام إذا نوى العبد الحج أو العمرة، ومنها تحديد نوع النسك من قران أو إفراد وتمتع ومنها وجوب تحقيق أركان الحج الأربعة وهي: الإحرام، وطواف الإفاضة، والوقوف بعرفة، والسعي بين الصفا والمروة، فمن ترك ركناً لم يصح حجه ولا يتم إلاّ به، وكذلك الانضباط في رمي الجمرات بالترتيب، وهذا المسلك التربوي يكاد يكون سمة بارزة من سمات المنهج الإسلامي التي يُربّى المسلم عليها؛ فتعوّده على النظام والانضباط، والطاعة للأوامر.
خامساً: الحج فرصة ثمينة إلى التغيير، فعندما ينوي المسلم الحج فإنه يقبل على الله بقلب صادق مخلص منيب، يقبل حامداً الله سبحانه وتعالى أن يسر له أداء هذه الفريضة العظيمة، فيقبل على الله سبحانه وتعالى بقلب مخلص طاهر من الشرك صغيرة وكبيرة ظاهره وخفيه راجياً العفو والمغفرة وهذه أولى خطوات التغيير إلى الأفضل؛ فإنّ صلاح القلب هو صلاح للحال كله وقد روي النعمان بن بشير رضي الله عنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (... ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنّ الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، والمسلم الذي يحج من غير رفث ولا فسوق يرجع نقياً طاهراً من الذنوب كيوم وُلد فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حج لله، فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه) قال بعض أهل العلم: (وهذا أمر عزيز، ولا شك أنه لا يمكن أن يكون إلاّ بجهد جهيد، وتوفيق من الله عظيم).
وينضم إلى التغيير القلبي الداخلي التغيير الظاهري فهو يخرج من لباس أهل الدنيا وينخلع منها ليلبس ملابس الإحرام ليتساوى مع إخوانه المسلمين في هيئتهم ومظهرهم.
كذلك فإنّ الحاج في حال إحرامه يوطن نفسه على اجتناب محظورات الإحرام، وفي هذا تعويد للنفس على قبول التغيير والمجاهدة فيه رغبة إلى التحوُّل إلى الأفضل قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ{، وهذا التغيير الذي يكسبه المسلم من الحج يستلزم المحافظة عليه والوفاء بما عاهد الله عليه والثبات على الحق إلى لقاء الله سبحانه وتعالى.
سادساً: في الحج تبرز الوحدة الإسلامية في أجل صورها وتعلن الهوية الحقيقية للمسلمين في أبهى حلّتها وهذا يشعر بالقوة والعزة ويدعو إلى التعاون والتكاتف، فهذه جموع المسلمين أتت من فجاج الأرض بلباس واحد ومقصد واحد ومصير واحد تجمعهم كلمة التوحيد وتقودهم شريعة الإسلام، فلا فرق بين الغني والفقير والحاكم والمحكوم ولا تمييز للون أو جنس أو لسان أو لغة، وفي هذا فرصة للتأمل والتدبُّر في قوة الأمة وذلك عندما يرنو المسلم إلى هذه الأعداد الغفيرة كيف توحّدت في زيها، وفي خطواتها ونداءاتها، وهذا تأكيد صادق أنّ دين الإسلام المرشح من قِبل الحق - سبحانه - هو الوحيد القادر على أن يكون ركيزة لتجميع الأمم والشعوب على وحدة واحدة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (... يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى ...).
سابعاً: في الحج يتجلّى منهج التيسير على الأمة ومراعاة الطبيعة البشرية، فلقد جعل الله سبحانه وتعالى لكل إنسان حكماً يناسبه من غير حرج أو مشقة وهذه نعمة عظيمة ومنّة كريمة من الله سبحانه وتعالى، يظهر ذلك في كثير من مواضع الحج وأحكامه، فمن لم يستطع الرمي لعذر جاز له توكيل غيره فيه، كذلك لا حرج في تقديم بعض الأعمال على بعض كما روى ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع، فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج. فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج. فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج).
ويظهر التيسر في الحج في توقيت أداء الأعمال، فيجد المتأمل أنّ هناك جلسات للراحة عامرة بذكر الله تسبق الأعمال التي تتطلّب جهداً كيوم التروية قبل الخروج إلى عرفة، والمبيت بالمزدلفة قبل أعمال يوم النحر الكثيرة من رمي ونحر وحلق وطواف، وفي هذا مراعاة للطبيعة البشرية، ويدل على يسر هذا المنهج وواقعيته وملاءمته للجميع قال تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.
هذه بعض الأبعاد التربوية والإلماحات المنهجية التي تستسقى من الحج وفقهه ورحلته الإيمانية، يسّر الله سبحانه وتعالى لي سبرها واختصارها وإلاّ فإنّ الموضوع كبير ويحتاج لبسط لا يتسع المقام له.
* رئيس مجلس الشورى - رئيس مجمع الفقه الإسلامي -
إمام المسجد الحرام وخطيبه