بعث تاريخ مظلم سُطر لهذه الفرقة الهالكة منذ الساعات الأولى من نشأتها إلى يومنا هذا، ولم يتعظ خلفهم بما حصل لسلفهم. إن حقيقة هذه الفرقة اليوم هي حقيقتها بالأمس، وهي حقيقتها غداً؛ فكلما هلك قرن خلفه قرن آخر، وإن تغيرت الأسماء وتعددت الرايات، واختلفت الشعارات؛ فإن الأسماء لا تغير من الحقائق شيئاً. الوقوف على حال هذه الفرقة ومعرفة حقيقتها أمر مهم ومطلب من مطالب الشريعة، فإن الله تعالى لما أمر باجتناب الطاغوت والكفر به لم يكن ليأمر بشيء غير معروف وإلا لكان من تكليف ما لا يطاق، ولكن حال فرقة الخوارج قد خفي اليوم على الكثير من الناس، وإن كانوا قد عرفوا الاسم وتردد على آذانهم كثيراً؛ ومن هنا، ولعلنا في سلسلة من الحلقات، نقف معاً على حقيقة هذه الفرقة ومَن تأثر بها منذ أن نشأت إلى يومنا هذا بشيء فيه اختصار كثير لعله يفيد القارئ الكريم ويكون رفداً لمن أراد التوسع في المعرفة.
أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه جمع من أهل العلم بقوله: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: مَن هي يا رسول الله؟ قال: مَن كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي. وفي رواية قال: هي الجماعة.
فأول فرقة ظهرت من هذه الفرق هي فرقة الخوارج، وذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم غنائم حنين بالجعرانة قام رجل فقال: اعدل يا محمد، فما أراك تعدل، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ويلك؛ فمن يعدل إذا لم أعدل؟ فأراد عمر - رضي الله عنه - قتله؛ فمنعه النبي - صلى الله عليه وسلم - من قتله، وأخبر - عليه الصلاة والسلام - أن هذا وأصحاباً له يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. ومن الأدلة على ذلك ما رواه البزار والهيثمي من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - والحديث طويل جاء فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ذُكر له رجل ذو نكاية في العدو، فلم يعرفه، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم ذلك الرجل فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هذا أول قرن رأيته في أمتي؛ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ناشدتك بالله هل حدثت نفسك حين طلعت علينا أن ليس في القوم أفضل منك؟ فقال: نعم، فدخل المسجد، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أن يقتله فلم يقتله، ثم أمر عمر بن الخطاب بأن يقتله فلم يقتله، ثم أمر علي بأن يقتله فذهب ولم يجده في المسجد، فقال له - عليه الصلاة والسلام -: لو قتل اليوم ما اختلف في أمتي رجلان حتى يخرج الدجال.
نعم ظهر قرن الخوارج في عهده - عليه الصلاة والسلام -، ولكن لم يكن لهم شوكة، ولا راية، وحكمة الله اقتضت بقاءهم ليكونوا آباء من بعدهم، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لذي الخويصرة: يخرج من ضئضئي هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم.. الحديث، وقال - صلى الله عليه وسلم - في رواية أخرى: إن هذا وأصحاباً له.. الحديث.
وأما حقيقتهم مع الصحابة - رضي الله عنهم - فهي ما سنعرفه في حلقة أخرى مقبلة إن يسَّر الله ذلك؛ فأتركه لوقته.
www.hailqq@gmil.com