المقابلة التي أجراها المحاور المتميز خالد الباتلي في جريدة الحياة يوم الثلاثاء الموافق (28 أكتوبر) مع الدكتور راشد العبد الكريم الأستاذ حالياً بقسم المناهج في كلية التربية جامعة الملك سعود ورئيس الجمعية السعودية للعلوم التربوية والذي عمل قبلاً في عدد من المناصب التربوية في وزارة التربية والتعليم أثارت الكثير من الشجون وطرحت صرخات عالية..
..يجب أن يقف عندها أصحاب القرار التربوي إذا ما قدّر لهذا التعليم أن تكتب له حياة أخرى.
الدكتور راشد وعلى وجه التحديد أكد على غياب النظرية في توجهات الإصلاح التربوية بمعنى.. ما هي الفلسفة أو النظرية التربوية التي تقود تغييراً ما نود طرحه على مستوى التعلم أو تدريب المعلم أو إدخال التكنولوجيا إلى آخره، وهذه مسألة في غاية الأهمية لأنها تشكّل اللب الذي على أساسه يبنى المنهج المقدم وطرق التدريس وتنظيم البيئة الصفية.. إلخ من عناصر التعلم.. السؤال لماذا هذا الغياب؟ هل لأنه لا توجد نظريات وتوجهات حديثة في هذا المجال أم لأنها في الغالب غربية المصدر فيقف التيار المحلي متردداً في قبولها أم هو العجز عن استيعاب المفاهيم الأساسية من قبل مصنعي القرار لهذه الفلسفات ومن ثم عدم القدرة على تبنيها؟
أشياء كثيرة قد تُقال في هذا المجال غير أن الحقيقة البسيطة التي نراها أمامنا أن التجارب التربوية المبنية على فلسفات ورؤى تربوية تعتمد آخر التجارب العلمية في أبحاث الدماغ وعلاقته بالتعلم موجودة وتبناها عدد كبير من الدول المتقدمة والنامية ولا نحتاج نحن للحيرة والتقلب وكأننا سنحضرها من كوكب آخر، إنها هنا بين أيدينا وخير نموذج على ذلك هو المشروع الضخم الذي قامت به كلية التربية للدراسات العليا في جامعة هارفارد تحت مسمي مشروع الصفر Project Zero والذي يعتمد على فلسفة Teaching for Understanding والذي يركز على التعلم من حيث هو نمو داخلي وتفاعل من قبل المتعلم مع المفاهيم المطروحة بطرق منظمة من قبل المعلم الذي يحاول تحقيق استيعاب المفاهيم الأساسية للمادة من قبل طلابه (طبعاً هذا يبدو الآن كلام عام جداً لمن لم يقرأ حول المشروع) لكن الفكرة الأساسية أن هارفرد بقيادة فريق عملها الذي يرأسه د. ديفيد بركنز رعت تطبيق هذا المشروع لتطوير التعليم في عدد من الدول خاصة في أمريكا اللاتينية وهي ما زالت تطور وسائلها بما يتماشى مع احتياجات الدول وإمكاناتها.. بمعني أن التجارب موجودة والخبراء موجودون... ما نريد هو تربويون حقيقيون ومخلصون لهذا البلد وبعيدون عن الأدلجة يتمكنون من استحضار تجارب علمية كهذه قائمة فعلاً ومدروسة ويتم تقويم تطبيقها في كل بلد من قبل مؤسسات تربوية وبحثية متميزة في قامة كلية الدراسات العليا للتربية في هارفرد.
واتفق تماماً مع د. راشد فسيحتاج هؤلاء الخبراء العالميون حين يحضرون وقبل تطبيق تطويرهم إلى مدارس بها ماء جار يستطيع الطلاب شربه ومكيّفات تعمل في الفصول وأنظمة إدارية مرنة تعطي المدرسة القدرة على الحركة المالية والوظيفية بما يتناسب واحتايجاتها.. بمعني أن تعليمنا يفتقد البنية التحتية اللازمة للمدرسة بالمعنى المتعارف عليه.
وهذا الأمر ينطبق أيضاً على ما أثاره الدكتور حول استخدام التكنولوجيا.. ستتحول مدارسنا وكما تفضّل الدكتور فعلاً إلى (مستودعات للهارد وير) فما يأتي مع استخدام التكنولوجيا ليس فقط فرحة استخدامها أو روعة فكرة إعطاء كل طالب حاسب شخصي. كل هذه الأجهزة الإلكترونية ومع استخدامات تلاميذ من مختلف الأعمار ومع معلمين يجهلون في الغالب الكثير من الاستخدامات المتقدمة لتقنيات التعليم ستحتاج إلى صيانة مستمرة وقطع خيار وسيغرق الفريق الإداري في حمى تفاصيل ذلك وتعقيداته التكنولوجية والمالية والإدارية بدل التركيز على عملية التعلم إضافة إلى أنه وفي كل بلاد العالم لا يتم تبني أية تقنية (مثلاً: السبورات الذكية) إلا ويتم تبني عقود صيانة وعقود تدريب للمعلمين والعاملين في صيانة هذه الأجهزة تتجدد سنوياً لتوازي التغيّرات التي تطرأ على التكنولوجيا مع برامج تقويم للتعرّف على ناتج التعلم من خلال استخدام هذه التقنيات ودرجة عمق هذا الاستخدام وتطوره.
أمر آخر ذو علاقة باستخدامات التكنولوجيا في المدارس تطرحه اليوم الكثير من الدراسات التربوية وهو التأكيد على أن كون المدارس لديها حاسوبات شخصية أو إنترنت سريع متاح لطلابها لا يعني الانتقال لعالم التقنية.. فما يحدث أن المدرسة تستخدم هذه التكنولوجيا لدعم طرق التعلم التقليدية في التفكير والتدريس والتقييم مؤكدة أساليب التفكير القديمة ومهارات التعلم القديمة التي لم يعد جيل اليوم يستخدمها مما يؤدي في الحقيقة إلى إعاقة كافة المهارات الجديدة التي يتعلمها الطلبة أساساً من استخداماتهم الشخصية لهذه التكنولوجيا والتي أظهرتها الأبحاث الأخيرة في علاقة الدماغ بالتعلم وأثر التكنولوجيا على ذلك.
البحوث الأخيرة تقول إن هناك تحولاً هائلاً في طرق تفكير هذا الجيل الرقمي وفي أساليبه في التفكير والتفاعل مع المعرفة والمعلومات، فحقيقة قيام الأطفال مثلاً بأكثر من مهمة في وقت واحد (فتح نوافذ في النت، سماع موسيقى، تشاتنك، صنع مواد) يعني القدرة على الوصول للمعلومات، التعامل مع الألوان، القفز من محيط معلوماتي إلى آخر في أي وقت وأي مكان، التفكير في أشياء لا علاقة بينها بحيث تمكن هؤلاء الأطفال من إيجاد طرق متنوّعة وجديدة للتعامل مع المثيرات والروابط البصرية واللغوية والمنطقية، الطرق الجديدة التي فرضها تعلم التكنولوجيا من قبل الجيل الجديد لا تتوافق مع مفاهيمنا التقليدية حول مدى التركيز لدي الطفل ومستواه Attention Span فطبيعة المعلومات المتعددة والمصادر اللا محدودة لهذه المعرفة تتيح للمتعلم أن يفكر بشكل أسرع بكثير مما كان متعارف عليه عقلياً. بيئة النت التي يتعامل معها أطفالنا لا تعترف بالتعليم الموجه وبخطوط مستقيمة وبمراحل متتالية، كما يحدث في المدارس التقليدية وضمن شبكة المعرفة المقدمة في المناهج الحالية وبالطرق التدريسية البائتة.
أطفالنا لا يفكرون فقط بشكل مختلف وإنما أيضاً يتعلمون بشكل مختلف وإذا لم تكن المدارس في تعاملها مع التكنولوجيا قادرة على استيعاب هذه التغيّرات لدعم طرق تعلم الجيل الجديد فهي لا تفعل شيئاً سوى تأكيد الطرق التقليدية في التعلم التي لا تتناسب مع التغيرات التي طرأت على عقل هذا الجيل. هل أخذت المدارس مثلاً هذا الجانب بعين الاعتبار عند إدخالها للتكنولوجيا في مدارسها الخمسين التي تخضع لبرنامج التطوير الجاري حالياً والذي انتقده الدكتور بشكل لاذع وهو الذي كان في الوزارة ومن ضمن جيشها فماذا نقول نحن إذن؟