قيل الجار قبل الدار، يتخذ هذا القول أبعاداً إنسانية وأخلاقية وموضوعية، فلا يمكن للإنسان أن يستقر ويهدأ له بال وعلاقاته متوترة مع جيرانه، وقد حث ديننا الحنيف على احترام الجار، وأوجب له حقوقاً حتى كاد أن يشركه في الميراث، كما ورد في الحديث الشريف، وطبيعة الاحتكاك المتواصل بين الجيران تفرز في بعض الأحيان أنماطاً متباينة من حيث الشد والجذب، سواء كان ذلك على مستوى الأسرة الصغيرة والتناوش بين الأطفال، فتارة تجدهم أصدقاء يلعبون مع بعضهم البعض، وتارة تجدهم خلاف ذلك، إلا أنهم يظلون صغاراً ولا تتسع مداركهم لفهم الحقوق المعنوية والأدبية، أي الجفاء وفترة الزعل لا تطول، فلا يلبثوا أن يعيدوا المياه إلى مجاريها وهكذا دواليك، ورب الأسرة وربة الأسرة كذلك يعون هذا الأمر، ولا يشكل هذا الأمر عبئاً على مفهوم العلاقة بمعنى أن الخلافات الصغيرة لا تتسبب في تعكير صفو العلاقة ولا تصل إلى حد القطيعة، لأن الحقوق يلتزم بها الكبار من منطلق إيمانهم والتزامهم بتعاليم دينهم، من هنا تأخذ العلاقة بين الجيران بعداً أشمل ومصالح أجدر بأن تتم صيانتها وتنميتها لصالح الجميع، إذ يشكل التقارب بين الجيران فهماً أوسع نتيجة الاحتكاك والتواصل المستمر، بل إن هذا الأمر يترك أثراً على التمازج المجتمعي إن جاز التعبير، فكل يعرف طباع جاره وخصائصه، وينسحب هذا الأمر بطبيعة الحال على الأسرة الكبيرة، وأقصد بذلك العلاقة بين المجتمعات والدول، هنا يكون الأثر الذي تتركه هذه العلاقة مرتبطاً بمصالح الأطراف بحس جمعي وبرؤية تنحو إلى ترسيخ الاستقرار لمصالح الشعوب والحفاظ على أمنها واستقرارها، فإذا كانت الأسر الصغيرة تحافظ على هدوئها في علاقاتها مع بعضها البعض، فمن باب أولى أن تكون الأسرة الكبيرة هي القدوة بهذا الصدد، وتجد الدول المتجاورة تنسجم مع معطيات المراحل التي تؤسس للاستقرار كأهداف إستراتيجية تخدم الأطراف، بل إن حتمية الانسجام تفرضه طبيعة العلاقة من حيث التداخل، فتجد الأسر ولاسيما التي تقطن في الحدود تربطها علاقات أسرية من مصاهرة وعلاقات تجارية كذلك، غير أن ما يؤثر على المسار في الغالب الاختلاف الأيدلوجي أو بالأحرى العقدي، وديننا الحنيف أمرنا باحترام الجار وحفظ حقوقه، أياً كان لونه أو جنسه أوعقدته، وهذه المبادئ السامية إشراقة في احترام الإنسان وحفظ حقوقه، بل تجسيداً لمفهوم الأمن الشامل للأبدان والأوطان، عدا عن ذلك فإن الاحترام يصون مصالح الأطراف ويحافظ عليها، فلن تجني الأطراف من استمالة الأفراد وجرهم إلى خارج حدود اللباقة واللياقة سوى مزيداً من التشويش والاضطراب، وقد ورد في الحديث الشريف (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) فالعلاقة بين الجيران يجب أن تكتسي بحلل الود والاحترام، وعدم الإضرار سواء كان معنوياً أو مادياً.
والأمر المحير حقاً هو ارتفاع مستوى الخلاف بين الجيران وهم أبناء الدين الواحد، بيد أنه لا يبدو كذلك أو بالأحرى ينخفض المستوى إلى الحد الأدنى مع الآخرين الذين يدينون بدين آخر، ولعل ما يرفع المستوى الأول ويخفض الثاني هو الإدراك الدقيق لمفهوم عدم التدخل بالشؤون الداخلية، بما في ذلك التأثير الفكري وعدم الانحياز وأعني بذلك عدم الانحياز للثقافة وتصديرها ونحو ذلك، وهذه المعضلة لن تجد الحل إلا بتعزيز ثقافة الاحترام، بكل ما تحتويه من دلالات عميقة بالغة والتحرر من الإفراط في الحساسية بهذا الصدد، ففي الأسرة الصغيرة لا يمكن بحال من الأحوال أن تجد جاراً يسأل عن توجه ابن جاره الدراسي، أو التأثير عليه بشكل أو بآخر وعن تخصصه وميوله، فضلاً عن النمط الفكري الذي تسير في ضوئه هذه الأسرة أو تلك، إن الاتزان في العلاقة مع الجيران هو جسر العبور للتواصل المفضي إلى استثمار العلاقة بما يعود بالنفع للجميع، ومهما بلغت أساليب التأليب التي تمارس في الخفاء على إجهاض المبادرات الخيرة، إلا أنها تبقى محاولات فردية يائسة بائسة، ولا شك أن العقلاء والكبار في رؤاهم التي تشحذ المصلحة وتحافظ عليها يدركون مآلات التوجه الخير النبيل، بل ويعون من واقع المسؤولية الأدبية والالتزام بتعاليم الدين الحنيف، مغبة التفريط في مثل هذه الأمور، وبالتالي فإن المصالح المشتركة لا تلبث أن ترسم الحدود الدقيقة اللائقة لمستوى العلاقة نحو عزة ورفعة شعوبها التي تتطلع للعيش الكريم وفق علاقة متينة متزنة جديرة بالاحترام والتقدير.
homad@asas-re.com