من أجمل ما سمعت في الطفولة أبيات لبدوي الجبل: |
فيا رب من أجل الطفولة وحدها |
أفض بركات السلم شرقاً ومغرباً |
وصن ضحكة الأطفال يا رب إنها |
إذا غردت في ظامئ الرمل أعشبا |
تودّ النجوم الزهر لو أنها دمى |
ليختار منها المترفات ويلعبا |
يزف لنا الأعياد عيدا إذا ثغا |
وعيدا إذا ناغى وعيدا إذا حبا |
لم يستوقفني في انتخابات الولايات المتحدة الأمريكية الأخيرة إلا دمعة أوباما التي استقرت على خده بتحدٍ رغم كل شيء حزنا على جدته قبيل فوزه بثلاثة أيام تقريبا.. كانت صورة مدهشة وعلى خد مدهش وزمان أكثر دهشة والعجب العجاب أنها خاطبت البشرية بأسرها بلغة الطفولة التي تعرف معنى اليتم ووجع الغربة... وفهم سكان الأرض جميعهم سر تلك الغصة ذات الملوحة المركزة حينما تكورت على بريق خد يشحذ العدسات والفضائيات والمراسلين أن يلقطوا صورة بألف صورة، ربما لن تتكرر في أي انتخابات قادمة.. وأدركت البشرية أن الرئيس القادم ذو قلب رحيم ودمعة حاضرة.. فتفاءلت صدقا باللون الأسود في زمن خذلان الألوان بعيدا عن كل الرسائل المضحكة وعنوانات الصحافة المثيرة ذلك اللون الذي عرف أسرار بريقه نابليون بونابرت أثناء انسحابه مهزوماً من روسيا، إذ كان يستغل حلول الظلام لانسحابه، يومها قال: (يا ليل.. أيها اللون الأسود.. يا ملك الألوان)، وقال الشاعر الأمريكي الزنجي جيمس بلدوين متفائلاً: (يا للروع.. إن المستقبل أسود) وقد كتب والت ويتمان الأمريكي الرائد والشاعر المبشر بالحرية في إحدى قصائده بأنه قادر على أن يرى البياض في عمق السواد، وقال كوميدي أمريكي زنجي متهكماً أمام مشاهديه:) نفد اللون الأسود ولسوء حظهم بقي البيض المساكين بلا لون حتى يومنا هذا). |
والأدهى من ذلك أن الشعوب التي ملت الحروب البيضاء وجنرالاتها في أروقة البيوت الملونة حينما فرحت بفوز أوباما الاستثنائي تناست أنه قبل عقدين من الزمن تولى قيادة الجيوش الأمريكية الجنرال الأسود كولن باول الذي صرح في مذكراته: (أدركت في ذلك الحين أن الولايات المتحدة لا تزال غير مهيأة لقبول وزير من أصل زنجي)، وبعد ذلك ترأست الدبلوماسية الأمريكية المرأة السوداء كونداليزا، ربما فرحت تلك الشعوب تفاؤلا برئيس يحقق أحلام كنج في مشهد أشد بياضاً من واقع بوش وتشيني وباول وكونداليزا والصقور البيضاء غالية الثمن التي يؤكد إفلاسها سياسيا العنوانات الصحفية المثيرة (رجل أسود في بيت أبيض، مسمار في نعش البيت الأبيض، رجل أسود لتبييض وجه أمريكا). |
إن عينا لم تملك عروق طفولتها عن النزيف في صورة أذهلت العالم سيؤلهما رؤية الأطفال في براثن الجوع والمرض والتشريد والأمية، ويوجعها أولئك المحرومون من الغذاء والمسكن والتعليم والرعاية الطبية والحماية من الإرهاق والاستعباد، ومن إجبارهم على العمل الشاق، وتجارة الرقيق ومزادات اللحوم البيضاء... |
إن عينا عاشت الحرمان واليتم والهجرة ستنفطر قطعا حينما ترى فلذات الأكباد مهزولة، عارية الأجساد حافية القدمين، تقطع نياط القلوب السوية ببكائها على الثوب والحليب والكسرة اليابسة، سلبتها الحروب كل مقومات العيش الكريم حينما قذفها اليتم على قارعة الطريق بلا أسرة، ونزعتها يد العذاب والكوارث والمجاعات من رحمها الآمن، فلا تقرأ في وجوهها إلا اليأس، ولا يكتب على جبينها إلا الوجوم، ولا يسقى وجناتها غير الشحوب، كل ذلك اضطرها إلى العمل الشاق المهين في تكسير الحجارة، ومسح الأحذية، وبيع الصحف وخدمة السادة المترفين، وأكثر ما يصور واقع الطفولة المؤلم ما ورد في صحيفة ال(ديلي ميل) التي نشرت نتائج الاسفتاء إن ثمانية أطفال من كل عشرة لا ينظرون إلى الحياة بتفاؤل، بل يرون أنها معقدة جدا، وأربعة من كل عشرة يشعرون بالقلق من الأزمة المالية التي يمر بها العالم حاليا، وأما الإحساس بالغربة فقد بدأ في الانتشار بين الأطفال، فتثبت الدراسة أن طفولة 55% من الأطفال الذين شملتهم الدراسة هي أصعب من طفولة آبائهم، وأن 37% من أهلهم لا يفهمون مخاوفهم، ويقول العلماء في مقال نشرته مجلة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي إنهم قاموا بتحليل مؤشرات القلق والكآبة في إحصائيات شملت حالات ما يزيد على 40192 طفلا وصبيا في سن الطفولة والمراهقة، فاكتشوا أن هذه المؤشرات ارتفعت إلى حد مذهل في الآونة الأخيرة، وقالت البروفيسورة جوان لوبي، أستاذة الطب النفسي في جامعة واشنطن: (إن العلماء لاحظوا، على مدى السنوات الأربع التي استغرقتها الدراسة، أن الأطفال يخضعون لنوبات وتقلب في المزاج قد تستمر لمدة أسبوعين، شبيهة بتلك التي يخضع لها الكبار الذين يعانون من الكآبة)، ويبدو أنه لو لم يستعجل البير كامو بنشر روايته (الغريب) لجعل بطله طفلاً في السابعة من عمره، وليس شابا ناضجا. |
كم من المهاجرين في أوروبا وأميركا وبقية أرجاء العالم عانوا من آثار اللون والعرق والديانة، وكم من الدموع سكبت على مكاتب الهجرة، وبكل تأكيد لن تستطيع مسح آثار عبارة الستينات (ممنوع دخول الكلاب والسود)، وكم من السياط جلدت ظهور الزنوج المنفيين، وبكل صدق لن يخفف لسعاتها دموع (جيسي جاكسون) وهو يتابع أول خطاب ألقاه الرئيس الأمريكي الجديد (باراك أوباما) بعد إعلان فوزه على منافسه (جون ماكين).. يا ترى بأي لون يكتب سارتر مقاله لو شهد فوز ذلك اللون - ملك الألوان - وبخاصة أنه أكثر الأوروبيين انحيازاً للسود في أمريكا وخارجها، وربما قال عنه أكثر مما قاله عن الرئيس السنغالي الراحل ليوبولد سنجور وزميله الشاعر ايميه سيزير إذ سماهما (أورفيوس الأسود) الذي جاء من العالم السفلي لينقذ العالم وليس العكس، وربما لو رأى السيد سارتر ملامح وجه أوباما في عزاء جدته لعرف أنه أكثر حزنا من د. فرانز فانون الذي كتب عنه في مقدمة كتاب (معذبو الأرض) ولكتب مقالة بالحبر الأخضر عن دمعة طفل تحكي أن للهجرة أسبابها ولليتم أوجاعه، وأن للدمعة حضورا يختلف حينما تناغم الطيور في رحلتها عبر القارات، وتدرك معاناة الأسماك والحيتان في سفر الفصول عبر المحيطات، بحثا عن الأمان في التراب البعيد والماء المتجمد، تتلمس بيديها المرهقتين في تلك القلوب المهاجرة أسرارا وحكايات تحكيها تلك العيون في أي موقف وأمام أي مشهد يذكر خبر الرحيل من أجل المزيد من الشمس والعشب والحرية، ويؤكد أن الرؤية تتضح أكثر عندما يبتعد الإنسان، ويرى الأمور بتجرد أكثر وحياد أكبر ومسؤولية لم يدركها إلا قلائل في التاريخ الإنساني ولا أخال أوباما الذي تحدى الأمطار والبرد الشديد قبل أيام وحيا أنصاره في تجمع انتخابي في بنسلفانيا إلا منهم بعكس ماكين الذي ألغى ظهوره في الولاية وأمضى وقته أمام المدفأة، ولذلك ستكون الفاجعة كارثية بحجم إعلان أن الكوكب الأرضي منكوب لو خذل أوباما جماهير ذلك الكوكب وأطفاله.. والسؤال البريء الذي يعصف بذاكرتي ويطوحني في غياهب مخيفة كلما رأيت ابتسامة أوباما بعد فوزه: ما حظه لو أن السفينة التي اختطفت أجداده من كينيا كان قدرها أن تتجه للمشرق بدل أمريكا؟ والله من وراء القصد. |
|