عانى العالم منذ ثمان سنوات من التوتر والقلق، وهي نتيجة طبيعية للسياسات الخارجية الأمريكية الخاطئة. فلم يكن لأمريكا في تلك الفترة دور فاعل من أجل تعزيز السلام والعدل، ولا الحرص على استقلال الشعوب وحقها في تقرير مصيرها.
وسيرث - الرئيس الأمريكي المنتخب - باراك أوباما، من إدارة الرئيس بوش قائمة طويلة من القضايا السياسية الخارجية المعقدة، والتحديات الصعبة. وهي جوانب مظلمة بلا شك، بدءا من النزاع العربي الإسرائيلي والمتمثل في الجرح الفلسطيني الدامي، وقضيته العادلة. ومرورا بالحرب على أفغانستان والعراق. وانتهاء بإقفال معتقلات التعذيب في (غوانتانامو)، والذي مورس فيها انتهاك لحقوق الإنسان في أبشع صوره. إضافة إلى الأزمة المالية الاقتصادية العالمية، وشبح الكساد والبطالة، والذي نتج عنه تآكل المخزون المالي الفيدرالي لأمريكا، وتقلص الفائض المالي. كل ذلك نتيجة حتمية لسياسات خاطئة، وقرارات عشوائية غير مدروسة ارتكبتها الإدارة الأمريكية.
ففي ملف السياسة الخارجية، سيرث باراك أوباما حربا على أفغانستان، ومثلها على العراق، قتل خلالهما أكثر من مليون إنسان، وشرد ملايين من الناس داخل بلادهم وخارجها، ودمرت مدن وقرى كاملة، وسحقت البنية التحتية للدولتين. إلا أن أحدا لا يمكن أن يجادل أو ينكر بأن تلك الحربين كانت تكاليفهما كبيرة، والثمن غالياً. فقد لامست سقف الثلاثة تريلونات دولار، وفقدت (5) آلاف قتيل، وأكثر من (43) ألف جريح ومعوق، وارتفع الدين من (5) تريلونات إلى (10) تريلونات.
وفي الملف الاقتصادي، سيرث باراك أوباما كسادا عظيما، وتضخما مخيفا، وانهيارا في النظام المالي الاقتصادي العالمي. بل إن المشكلة تفاقمت بإعلان بنك (ليمان براذرز) عن إفلاسه، وإعلان إفلاس البنك الأمريكي للرهن العقاري (أمريكان هوم مورتاج). إضافة إلى ذلك، فقد انخفضت القيمة السوقية للبنوك الأمريكية إلى أدنى مستوياتها، فتراجعت قيمة (سيتي بانك) من (255) إلى (82) مليار دولار، وبنك (مورجان ستانلي) من (49) إلى (21) مليار دولار، وبنك (جولد مان ساكس) من (100) إلى (56) مليار دولار. ويصف - الوزير الفرنسي للشؤون الأوربية - جان بيار جوييه، ما تشهده أسواق المال بأنه: (نهاية عهد، وسيكون النظام المالي في السنوات المقبلة مختلفا تماما عما نشهده اليوم، لأنه لا بد من وجود ضمانات أقوى، وشفافية أكبر).
أما - وزير المال الألماني - بير شتاينبروك، فيقول: (إن أمريكا ستفقد مكانتها كقوى عظمى في النظام المالي العالمي، ويجب أن تعمل مع شركائها للإنفاق على قواعد عالمية أقوى، لتنظيم الأسواق بعد كل ما تركته الأزمة الحالية من آثار عميقة). بل إن - الكاتب الأمريكي - توماس فريدمان يلقي في مقال له بعنوان: (الاقتصاد الأمريكي مقامر لا مغامر)، بالمسؤولية على السياسات الأمريكية الخاطئة في إدارة المال.
أما في ملف حقوق الإنسان والحريات، فحدث ولا حرج عن سلسلة طويلة من الانتهاكات الرهيبة في هذا الجانب، فألحقت ضررا كبيرا بصورة الولايات المتحدة الأمريكية لدى الأسرة الدولية، بخصوص سجن (غوانتانامو)، والذي مازال مئات المعتقلين محتجزين فيه، بعضهم منذ حوالي سبع سنوات بدون توجيه أية تهمة رسمية إليهم، وذلك باسم (الحرب على الإرهاب). مما حدا بمنظمات حقوق الإنسان المطالبة بإقفال المعتقل، ومارست كل من ألمانيا وبريطانيا ضغوطا سياسية على واشنطن، وأخرى داخلية من الكونغرس والمحكمة العليا الطاعنة بشرعية المعتقل، وتحوله رمزا لممارسات التعذيب، وخزان وقود لتحريك مشاعر العداء ضد الولايات المتحدة الأمريكية منذ إنشائه في 2002 م. ودانت منظمات حقوق الإنسان بشدة سجل واشنطن في هذا المعتقل، وشبهته بمراكز الاعتقالات السوفيتية. بل إن منظمة العفو الدولية أطلقت على كل من - وزير الدفاع السابق - دونالد رامسفيلد، وكونداليزا رايس ب (مهندسي التعذيب). وطالبت قيادات دولية، بينها - المستشارة الألمانية - أنغيلا مركل الرئيس بوش بإقفال المعتقل. كما أعربت بريطانيا عن تحفظاتها حيال الممارسات هناك. وطالب رؤساء أمريكيون سابقون، من أبرزهم: بيل كلينتون، وجيمي كارتر بإقفال المعتقل. وانضم - وزير الخارجية الأمريكي السابق - كولن باول إلى الداعين لإغلاق المعتقل.
صحيح أن باراك أوباما ينتمي إلى ما يعرف في التقاليد الأمريكية بتيار الليبرالية الدولية، كما يقول - البروفيسور- مايكل مان - أستاذ العلاقات الدولية - بجامعة كولومبيا: (هو تيار يرفض الأوهام الامبراطورية، ويطالب لأمريكا بدور القائد الأكثر تأثيرا وليس دور الإملاء الامبراطوري). إلا أن على العرب والمسلمين ألا يتفاءلوا كثيرا بفوز باراك أوباما برئاسة أمريكا، ففي اعتقادي أن الشعارات التي رفعها الرئيس الجديد، هي مجرد سراب خادع، وذر للرمال في العيون، تمليه مصالح مؤقتة، ولن تجد طريقها إلى التنفيذ. فوعود الانتخابات شيء والسياسة الخارجية شيء آخر، لأن السياسة الخارجية الأمريكية تصنعها مراكز الدراسات الاستراتيجية الكونية. وهو ما يدركه أهل الحصافة السياسيون، من أن السياسة لا يصح فيها بناء المواقف والأفعال على مجرد الظاهر السياسي والإعلامي. ومما يدل على صحة ذلك: اختياره لأسوأ رجالات الإدارة الأمريكية وأكثرهم تطرفا، وتعيينه نائبا له، ويدعى (جوزيف بايدن)، والمعروف بموالاته لإسرائيل، واحتقاره للعرب والمسلمين. وأيضا، تعيينه (رام ازرائيل إيما نيو يل)، رئيسا لديوان البيت الأبيض، وهو صهيوني وعضو فاعل في منظمة (أرغن) الإرهابية.
على كل حال، فإن فوز باراك أوباما هو فوز للديمقراطية الأمريكية. هذه الديمقراطية هي التي وصفها - رئيس الوزراء البريطاني السابق - تشرشل يوما ما، عندما قال: (بأنها أفضل الأسوأ من بين الأنظمة السياسية المختلفة). فالخيال والأماني لن يعدوا أن يكونا مجرد سحاب من ضباب. وفي نهاية المطاف سيقتفي باراك أوباما سياسة الجمهوريين، ولن يحدث أي تغييرات جذرية.
drsasq@gmail.com