الحق والحقيقة لا يمكن لإنسان مهما كان وأياً كان أن ينكرهما أو يخفيهما لفترة طويلة من الزمن، ناهيك عن إخفائهما أمد الدهر عن البشر، فالحق يعلو ولا يُعلى عليه، والحقيقة تظهر للعيان وللجميع وإن طال الزمن.. أما الواقع فلا يُمكن أن يرفضه أو يتغاضى عنه أو يهمشه بشر، فكيف من يحاول تغييره بالتشويه أو التقبيح أو التلفيق.
كثيرة هي الحقائق التي تؤكد المضامين الدينية والسياسية والأمنية والأخلاقية التي احتوتها كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- في الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الماضي، وندرة من القادة في العالم برمته مَنْ بمقدوره الحديث للعالم وشعوبه بصدق عن الحق، وبجرأة عن الحقيقة والواقع، أو ممن لديهم الجلد صراحة للإعلان أمام العالم كله الأسباب الرئيسة وراء وقوع المجتمع الدولي فريسة سهلة للتطرف والعنف والإرهاب، بل ولماذا انجر البعض من المغالين والمتعنتين والمتعصبين والمتشددين في الأديان وراء مواقف الرفض القاطع والتعالي الأعمى والتشدد الأهوج في محاولات عقيمة لنشر الضغينة والحقد والكره والفتنة بين الأديان السماوية وبالتالي بين الشعوب.
شمولية الطرح اتضحت في كلمة الملك عبدالله بمعانٍ إنسانية واقعية واضحة ودقيقة يستنبط منها المستمع لروافد عدة من الدقة في الهدف والنبل في المقصد والعمق في الرؤية والوضوح في المنطق. انفردت الكلمة بمفرداتها العميقة.. لا تذخر وحسب برسالة دينية وسياسية وحضارية وثقافية قيمة وإنسانية في ذات الوقت، لكنها تنبض بغاياتها الأخلاقية المتمدنة وأهدافها السلمية النبيلة.
ولعل منطق الملك عبدالله في تلك الكلمة الضافية لا ولن يقل أهمية ولا عمقاً عن منطقه الموضوعي في التعامل مع مجمل التطورات المحلية والإقليمية والدولية منذ اندلاع فتنة القرن الواحد والعشرين أو الفتنة العالمية الكبرى عام 2001م وحتى اليوم.. هذا ما نلمسه في كل من لديه القدرة المعرفية لاستنباط آليات ووسائل التعامل مع القضايا والتحديات التي تواجه العالم كله، وبالطبع مع ما يصحبها من ملفات وفروع ملفات وفروع أفرع في المسارات، فحكمة قيادة المملكة السياسية ممثلة في خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز خصوصاً في التعامل مع الأحداث الخارجية لا تقل عن اتزانها الدبلوماسي في التفاعل مع الأحداث الإقليمية والدولية الجسام بمواجهتها بحزم وتعاون مع المجتمع الدولي.
الإنسان كما أشار الملك عبدالله لا يقل أهمية عن الإنسان الآخر في أي مكان من العالم، وبهدف الحياة بأمن وسلام واستقرار ليس له إلا منطق الأخوة والتعايش مع الإنسان الآخر.. التفريط في حقوق الغير واقع يضر بحقوق الجميع، لهذا فإن تأكيد الملك عبدالله على ضرورة عدم التفريط في حقوق الآخرين لدلالة واضحة على أهمية احترام الحق والحقائق والحقوق من أجل القضاء على مصادر ودوافع الغضب والحقد التعصب والتشدد.
لهذا أكد الملك عبدالله على ضرورة عدم المضي قُدماً من قِبل البعض في التفريط في حقوق الآخرين فمآسي العالم منذ فجر التاريخ سببها الحقد والكره والتطرف والتشدد، وبالطبع تخلي البعض من البشر عن مبادئ وتعاليم الأديان السماوية.. من هنا فإن الحوار كما أشار الملك عبدالله بين الأديان وأتباع الأديان من فقهاء وعلماء ومثقفين لكفيل بإحياء القيم الإنسانية السامية في العالم لتحل محل المبادئ الهدامة والمعتقدات المتطرفة والأخلاقيات المضطربة.
واقع التاريخ وحقائقه تؤكد برمتها أن تركيز الشعوب على نقاط الخلاف بين أتباع الأديان قاد إلى التعصب والصراع، والأخير ساهم في ارتكاب العنف ونشوب الحروب.. وها هو الإرهاب بكافة أوجهه القبيحة يكشر عن أنيابه ليهدد العالم كله بعد أن فقدَ البعض مبادئ وأخلاقيات وقيم التسامح ورفضوا الحوار والتفاهم بمنطق عاقل وحكيم وبأساليب إنسانية متمدنة.. لمجمل ما ورد من نقاط فإن المملكة تدرك تمام الإدراك بل وتؤمن بأن شعوب العالم كلها لها الحق كل الحق في ممارسة شعائر أديانها براحة وأمن واستقرار بغية تحقيق التعايش السلمي مع بعضها البعض.
من هنا فإن المملكة تعيد مرة أخرى لتُذكِّر المجتمع الدولي بمسؤولياته وواجباته تجاه القضايا الإقليمية والدولية العالقة والصراعات البينية المستعرة بين الدول والشعوب التي غُلبت على أمرها بقوة السلاح وبمنطق القوة والاضطهاد وأغرقت في دوامات العنف التي بدورها أغرقت المجتمع الدولي في أتون العنف والحروب وأحضان الإرهاب وتنظيماته.. محصلة ومجمل القول إنه لا يمكن لمخلوق عاقل أن يعجز عن التمييز بين ما هو حق وواجب ومشروع.. وبين ما هو باطل وظالم وجائر.
الوضع الإنساني والأمني الدولي المتردي والمتدهور برمته لا محالة نتيجة لغياب الحوار والتسامح والتعايش السلمي الذي بدوره يفضي إلى المزيد من سوء الفهم والعنف والصراع والحروب والإرهاب.. لتلكم الأسباب ذكَّرت كلمة الملك عبدالله جميع القوى النافذة المحبة للسلام والأمن في المجتمع الدولي ضرورة تكوين لجنة عالمية تتحمَّل مسؤولية الحوارات العالمية على كافة المستويات الإنسانية المؤسساتية للتصدي بحزم لكل من يهدد الأمن والسلام والاستقرار العالمي.
*drwahid@email.com