بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية برزت الولايات المتحدة قوة اقتصادية وعسكرية عظمى، والسبب أن الحرب لم تنهك الولايات المتحدة كما أنهكت الدول الأخرى المشاركة فيها بسبب دخولها الحرب متأخرة.
هذه القوة الاقتصادية الهائلة أدت لهيمنة الولايات المتحدة الاقتصادية على العالم، وقد شاركت الولايات المتحدة بصياغة أنظمة الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات التابعة لها والمؤسسات المالية التي أسست بعد الحرب العالمية الثانية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بصورة فعالة حيث غدت المهيمنة عليها.
واصلت الولايات المتحدة نموها الاقتصادي حيث أصبحت القطب الوحيد المسيطر على سياسات العالم، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1989م، واستمر هذا الوضع حتى عام 2000م.
حيث بدأ التغير منذ سنة 2001م بعد أحداث سبتمبر حيث أعلنت الولايات المتحدة الحرب على ما يسمى بالإرهاب، فغزت أفغانستان ثم العراق فأدت هذه الحروب، لاستنزاف موارد الاقتصاد الأمريكي إضافة لسياسات الإدارة المالية الخاطئة، بينما بدأت دول ومجموعات اقتصادية كبرى بالصعود ومنافسة الولايات المتحدة في الإنتاج الصناعي والزراعي والخدمات كالاتحاد الأوروبي والصين، والتي ارتفعت صادراتها للعالم سريعاً وبنسب عالية، فأصبح للولايات المتحدة منافسون أقوياء اقتصاديا مما أدى إلى تدهور الصادرات الأمريكية وضعف الدولار تجاه العملات الحرة، ومن مظاهر هذا الضعف الحالي ما يلي:
1 - أزمة الرهن العقاري:
تعتبر هذه الأزمة هي السبب المباشر بحدوث الأزمة المالية الحالية؛ حيث تم بناء أكثر من700 ألف وحدة سكنية، بدون التأكد اللازم من مقدرة المقترضين على التسديد، مما أدى إلى إفلاس العديد من البنوك حيث طال هذا الأمر بنوك كبيرة مثل Bear stearns - Lehman Brothers.
2 - الدين العام للدولة:
وصل الدين العام في الولايات المتحدة إلى 10 آلاف مليار دولار مما يزيد من إرهاق وضعف الاقتصاد الأمريكي.
3 - ازدياد عجز الميزانية الأمريكية:
حيث وصل عجز الميزانية عام 2007 - 2008م 445 مليار دولار، والسبب يعود لضعف صرف الدولار، اتجاه العملات الحرة الأخرى، مما زاد من تكلفة الاستيراد خلال السنوات الماضية.
4 - ازدياد البطالة:
نسبة البطالة حيث بلغت أكثر من 6% حتى بداية أغسطس 2008م وأكثر من 159 ألف وظيفة شطبت في سبتمبر 2008م ومن المنتظر أن تزيد نسبة البطالة إلى مستويات خطيرة، خصوصاً بعد أن تسرح المصانع المتوسطة والصغيرة وحتى الكبيرة جزءا من عمالتها نتيجة للصعوبات المالية التي تواجهها وهذا الوضع سيزيد العبء على الاقتصاد الأمريكي نتيجة لزيادة المنح المالية التي تصرف للعاطلين عن العمل.
5 - ضعف الثقة في الاقتصاد الأمريكي:
ستؤدي هذه الازمة لزيادة عدم الثقة بالاقتصاد الأمريكي، وستؤثر بالداخل والخارج ففي الداخل ستقل الثقة عند تقديم القروض للأفراد وللمشاريع، مما يساهم في انخفاض النمو المطلوب، أما المستثمرون من الخارج فوضع الاقتصاد الأمريكي الحالي لا يشجع على الاستثمار في الولايات المتحدة، لذا سينسحب كثير من المستثمرين من أسواق المال الأمريكية بحثاًعن أماكن أخرى في العالم أكثر أمناً وربحاً مما يزيد من حالة الضعف التي يعاني منها الاقتصاد الأمريكي أصلاً.
هذه بعض الأوضاع الاقتصادية التي يعانيها الاقتصاد الأمريكي، وبالتالي فمن المشكوك فيه أن تؤدي الخطة الاقتصادية التي أقرها الكونغرس الأمريكي بتخصيص700 مليار دولار لمواجهة هذه المشاكل، أن تعيد العافية الكاملة للاقتصاد الأمريكي ولو بعد وقت ليس بالقصير، حتى ولو فاز الديمقراطيون في الانتخابات لأن التركة ثقيلة وصعبة الحل.
الدروس المستخلصة
من هذه الأزمة الاقتصادية لاقتصاد المملكة
1 - إعاة النظر بالارتباط بالدولار: انخفاض سعر صرف الدولار، يؤدي بدوره لخفض سعر صرف الريال اتجاه العملات الأخرى، مما يضعف من قوة الاقتصاد السعودي، والقوة الشرائية للريال مما يؤدي لخفض المستوى المعاشي للفرد في المملكة، لذا المطلوب فك هذا الارتباط وتنويع سلة الاحتياطي للريال من عملات حرة أخرى ومعادن ثمينة إضافة لما تمتلك المملكة من احتياطي كبير من نفط وغاز.
2 - قلة الطلب على النفط: قد يقل الطلب قليلاً على النفط خصوصا من جانب الولايات المتحدة بسبب الركود الاقتصادي الذي تعانيه وأيضاً الطلب من بعض دول أوروبا لكن الطلب على النفط سيكون على وضعه في آسيا، كالصين واليابان والهند نتيجة للنمو الاقتصادي المتصاعد، وقد يزداد الطلب قريباً، لكن مع ذلك يجب خفض كميات النفط المعروضة بالسوق الدولية باتفاق دول أوبك كما فعلت برفع الإنتاج حينما قارب سعر برميل النفط حوالي 150 دولارا، كي تحافظ على سعر عادل للنفط، على أن لا يقل هذا السعر عن مائة دولار للبرميل كي تستطيع الدول المصدرة للنفط، من مواصلة نموها الاقتصادي الذي يعتمد لحد كبير على هذه المادة القابلة للنفاد، أما ما يقال عن ارتفاع سعر صرف الدولار لتبرير انخفاض سعر برميل النفط فهذا هراء، فما زال الدولار منخفضاً، فليس سعر صرفه الآن كما في سنة 2000م، كما أن هذا الارتفاع لن يدوم طويلا بل من المنتظر أن ينخفض بناء على وضع الاقتصاد الأمريكي الحالي.
3 - تأثر سوق المال السعودية: قد تكون بعض الشركات المالية كالبنوك وشركات التأمين، المدرجة بسوق الأسهم السعودي، قد تضررت نتيجة لاستثماراتها في البنوك المفلسة والتي وضعت الإدارة الأمريكية اليد عليها، (شبه تأميم)، وهذه الأضرار تتناسب طردياً مع حجم هذه الاستثمارات الضائعة وقد تتضح هذه الصورة خلال الأيام أو الأسابيع القادمة.
لكن التأثير الأكبر الذي اضر بسوق الأسهم السعودي هو الجانب النفسي، والذي يعاني منه سوق الأسهم منذ انهيار فبراير 2006م حيث ضاعت مليارات الريالات، وهذه الخسائر أحبطت المستثمرين الحساسين أكثر مما يجب اتجاه أي أخبار سيئة أو توترات سياسية عابرة، مما أدى إلى قلة الثقة في السوق السعودي والخوف من الاستثمار به، فسحب الكثير من المستثمرين استثماراتهم ووجهوها للاستثمار في العقار أو نحو الخارج وقد عصفت الأزمة المالية بسوق الأسهم السعودي أكثر ما يجب، فالوضع الاقتصادي للدولة جيد وبتحسن مستمر، وأن هذا الوضع الحالي جد مناسب لأصحاب الأموال المستثمرة بالخارج بالعودة بها للبلد، فالاستثمار في القطاع الصناعي مربح فهذا القطاع سيكون عماد الاقتصاد بعد نفاد النفط، وكذلك الاستثمار في قطاع الخدمات كالكهرباء والماء عصب الحياة والتطور، وقد برهن الاستثمار بالداخل بأنه هو الأجدى والأفضل، ودرس الخسائر الأخيرة التي منيت بها هذه الاستثمارات بالخارج كان درساً بليغاً.
على عاتق هيئة سوق المال والجهات المالية الأخرى الإفصاح بكل شفافية عن كل ما يحدث ويدور عن الأوضاع المالية، كي تستعاد الثقة بالوضع المالي وبالتالي زوال تأثير العامل النفسي من السوق تدريجياً.
كما على هيئة سوق المال، إعادة النظر في وقت افتتاح سوق المال الحالي الساعة11 صباحاً فهو وقت متأخر، ولا يناسب أبداً مناخ المملكة الحار في معظم أشهر السنة، كما أن الهيئة ليست مسؤولة عن ضبط دوام الموظفين الذين يتركون مكاتبهم، فأقترح بجعل دوام السوق من الساعة 9.5 حتى الساعة 1.5 ظهراً طيلة أيام عمل الأسبوع الرسمية.
ظهرت دعوات بغلق سوق المال السعودي، في حالة انخفاض المؤشرات في أسواق المال العالمية، وهذه دعوة خاطئة فإذا كان سوق المال السعودي يواجه مشاكل فمن الواجب حلها دون التفكير بالهرم إلى الأمام، وغلق السوق فلنا اقتصادنا الذي يجب أن تعتمد مؤشرات سوق المال عليه، لا على العوامل النفسية فقط والتي ينبغي أن يكون تأثيرها محدوداً بدلاً من إعطائها ما لا تستحق من تأثير كبير يصل لحد إغلاق السوق.
4 - تاثير الأزمة المالية الحالية على المواطن: كثر الحديث عن انحسار نسبة التضخم خلال الأشهر القادمة وقد يكون التوقع صحيحاً، ولكن لحد ما فلن تعود أسعار السلع والخدمات لسابق عهدها فبعض السلع ارتفعت بنسبة100% والإيجارات ما بين 20 - 40% والانخفاض المتوقع خلال الأشهر القادمة لن يزيد عن20% بالرغم من انخفاض سعر برميل النفط بنسبة تقارب50% حينما تم ربط ارتفاع معدلات التضخم بارتفاع أسعار النفط.
المواطن الذي يقل مرتبه عن خمسة آلاف ريال والذي لديه أسرة يعاني من ارتفاع تكاليف المعيشة، المتمثلة بإيجار المسكن والقوت وتكاليف الخدمات من اتصالات وكهرباء وغيرها.
وعليه من المنتظر في حالة زيادة المرتبات، أن تكون لهذه الشريحة من المجتمع لها النسبة الأعلى من زيادة المرتباتن فليس من العدل زيادة مرتبات هذه الشريحة بنفس نسبة شريحة أخرى تزيد مرتباتها عن عشرين ألفاً، كي تتمكن هذه الشريحة من مواجهة تكاليف الحياة متطلباتها كما على الجهات المسؤولة وضع حداً أدنى للمرتبات بحيث لا تقل عن 3000 ريال بأسرع وقت ممكن، لضمان حياة كريمة وسهلة قدر المستطاع.
أما مشكلة البطالة فمازال المجتمع يعاني منها، فلن يغيب عن البال المشاكل الاجتماعية الخطيرة التي تواجه المجتمع في ظل هذه الحالة، بالرغم من وجود أكثر من سبعة ملايين وافد يعملون في البلاد، وأكثرهم غير مؤهلين لا علمياً ولا فنياً إضافة للجرائم التي يرتكبها البعض منهم بدافع حب الثراء السريع، وما يتكبده اقتصاد البلد من نزيف التحويلات السنوية الكبيرة، حيث تأتي المملكة من ضمن القائمة العليا بنسبة التحويلات المالية العالية للخارج. علماً بأن نسبة البطالة وصلت لدينا إلى ما يقارب من 14% وهي نسبة مرتفعة فعلى وزارة العمل، العمل بجدية على إيجاد الأعمال للسعوديين في القطاع الخاص حيث تنخفض نسبة السعوديين في بعض الشركات والمؤسسات دون 5%، بإلزام هذه الشركات والمؤسسات برفع سنوي لنسب السعودة لديها وتطبيق الأنظمة بحزم مقابل هذه الشركات والمؤسسات دون الالتفات لما يروجه البعض بأن العاملين السعوديين غير جادين في العمل، فليس من المنطق أن يكون الشخص المحتاج للعمل غير جاد فيه، إذا توفر المرتب المعقول وظروف العمل المناسبة، أما ما يقال عن أن مخرجات التعليم لدينا، بأنها غير مناسبة لمتطلبات العمل، فهل مخرجات التعليم في دول آسيا أفضل من مخرجات التعليم لدينا؟ علما بأن نسبة كبيرة كما أسلفت من الوافدين ليس لديهم التعليم الكافي أو الخبرة المهنية أو الفنية الكافية، فلدينا مهندسون وفنيون سعوديون لا يجدون عملاً، على وزارة العمل تطبيق الأ،ظمة والقوانين الكفيلة بإيجاد أعمال ملائمة بالقطاع الخاص ضمن خطة زمنية محدودة دون تأجيل، وأن تتحمل الوزارة المسؤولية المنوطة بها.
كما أن على وزارات ومؤسسات القطاع العام خصوصاً وزارة المالية استحداث وظائف تستوعب جزءاً كبيرا من الراغبين في العمل بالقطاع العام خصوصا بعد التحسن الكبير الذي حدث على دخل الدولة.
إن تحسين دخل المواطن بلا شك هدف للدولة خصوصاً بعد تعرض مدخرات الكثير من المواطنين للخسائر الكبيرة في سوق المال، أو تعرض أموال بعضهم للضياع بالمساهمات العقارية المتعثرة، والتي مضى على معظمها وقت طويل دون تصفياتها بالرغم من البيانات الصادرة من وزارة التجارة بهذا الخصوص، مع العلم بأن معظم هذه المساهمات طرحت بموافقة وزارة التجارة، وأعلن عنها بالصحف اليومية.
الخاتمة:
المطلوب من الجهات المعنية المختصة، إعادة النظر بربط سعر صرف الريال بالدولار الأمريكي خصوصاً وأن العملة الخليجية الموحدة على الأبواب كما هو مقرر، لأن الاقتصاد الأمريكي يعاني من مشاكل وصعوبات كثيرة تقدم ذكر بعضها، فليس من المنتظر أن يعود الاقتصاد الأمريكي لسابق وضعه، لأن إصلاحه صعب وقد يستغرق وقتاً طويلاً، حتى في حالة فوز الديمقراطيين بالانتخابات.
إن التعاون الاقتصادي بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة في الأربعينيات من القرن العشرين كان عين الصواب، عندما كانت الولايات المتحدة قوة اقتصادية فتية متصاعدة، أما الآن فوضع الولايات المتحدة الاقتصادي والمالي مختلف تماماً، والذي نأمل بأن يعيد المسؤولون النظر في ارتباط الريال بسعر صرف الدولار، وأيضاً تنويع أماكن الاستثمارات بعيداً عن المخاطر الاقتصادية والمالية كي نتجنب الدولة قدر الإمكان الخسائر المالية التي حصلت والتي قد تحصل مستقبلاً.
يبرز تساؤل كبير عن مستقبل الرأسمالية بعد إفلاس وسقوط المصارف الكبرى في قلعة الرأسمالية الولايات المتحدة؟ وما هو النظام البديل؟ وهل النظام الإسلامي سيكون البديل الصحيح؟ (هذا ما سيجيب عليه المستقبل)، والله الموافق.
* باحث اقتصادي