كانوا ثلاثة متجاورين، تجمعهم ثلاثة مدارس متجاورة، وكل مدرسة تختلف مرحلتها الدراسية عن الأخرى، ويعملون بوظائف (حراسة) ويديرون أعمالهم بكل أمانة وهمة ونشاط طيلة أيام الأسبوع، بما فيها (الجمعة) فهم لا يعرفون الكلل والملل، وقد شاهدتهم كثيرا وهم منهمكون في أعمالهم، ولم يتبادر إلى أذهانهم راحة أسبوعية كيوم الجمعة مثلاً، لكي يريحوا أبدانهم من عناء التعب والمشقة، فالمدارس التي يعملون (حراس) لها كبيرة وواسعة ويستغرق العمل طيلة النهار، بعد انصراف (الطالبات) وفي الفترات المسائية، تساعدهم (زوجاتهم) في تنظيف الفصول الدراسية والأفنية الخارجية للمدارس، ويسكنون في (ملاحق) لهذه المدارس، لا تفي بحاجتهم للسكن المريح لتعدد أولادهم.. والذين يساعدونهم في أعمال الحراسة والنظافة شفقة منهم على آبائهم الطاعنين بالسن. |
كل ذلك مقابل أجور زهيدة لا تكفي لسد رمق أولادهم، وهذه هي المشكلة الحقيقية التي تعاني منها أمثال هذه الطبقة الكادحة من (حراس) المدارس، وأفراد أسرهم المتعددة، والذين حينما يرى المرء أحوالهم ويتمعن في تصرفاتهم، نتيجة الفقر المدقع الذي يعيشون به، تراهم متماسكين مرتضين، بقسمة الله عز وجل في رزقهم، شاكرين فضله دائبين على الصلاة في أوقاتها بالجامع، الذي على مقربة من منازلهم.. متحلين بالأخلاق الإنسانية الهادئة المطمئنة، لا يأنفون ولايتأففون، من أعمالهم فلديهم من (الوطنية) ما شجعهم على مواصلة المشاركة في خدمة الوطن، رغم فارق المستوى المعيشي، الواضح في معيشتهم ومظهرهم النابض بالأسى والحرمان من أبسط ملذات الحياة، حيث المرتبات المتدنية وافتقادهم للمساكن التي تضمهم وذويهم بعد انتهاء خدماتهم، وهذا ما حصل للكثير منهم، ومن بينهم هؤلاء الثلاثة لاسيما ونحن بصدد الحديث عنهم. فمثل هؤلاء الفقراء البائسين. يتغلبون على قسوة الحياة وشظف العيش، بالصبر والصلاة والدعاء.. ويمشون بين الناس والعفة تملأ جوانحهم، وعظمة الأخلاق لا تغيب عن محياهم، والبسمة الوقورة دعوة للحديث معهم، ويتحدثون إليك الحديث الهادئ الرزين، يحدوهم الأمل نحو حياة ميسورة، رغم عيشهم على الكفاف. |
كانوا ثلاثة توفي أحدهم وهو العم (علي) توفي بعد عودته من الجامع وقد أدى صلاة الصباح جماعة وكان قبلها بيوم رحمه الله يسألني، هل يستطيع أن يجد له بيتا (شعبيا) بالمبلغ الضئيل الذي كان يمتلكه يومه، بالله، كأنه يقرأ طالعه، يريد بيتا يأوي أولاده قبل مماته، مات وفي حلقه غصة الحرمان، مات (سكتة قلبية) وهو المتعافي الذي لم يشكُ من أعراض مرضية، وتفرق أولاده لا أدري إلى أين، رحمه الله. |
الثاني، أيضا العم (علي.. م.. ي) قبيل كتابة هذه المقالة بيوم، وأنا في طريقي مررت بداره، وإذا بجاري الطيب الحبيب، يشد الرحال، من الملحق المدرسي، توقفت سألته: إلى أين ياعم على، ولكم أن تتخيلوا ماذا كان الجواب!! ويعلم الله أنني لم أستطع أن أقف ثانية لهول الجواب المفعم بالأسى واللوعة والحرمان، فقد انتهت خدمته كما تنتهي صلاحية مادة (معلبة) وليس كإنسان له كيان وهو الرجل الكادح الغلبان، ابتعدت عن الموقف الرهيب المؤثر، وبدأت أرقبه كان أولاده يساعدونه في عملية نقل (العفش) في سيارته الخاصة المتهالكة، حيث لم يكن باستطاعته، تأجير سيارة نقل، كان الأثاث يدل على تمضية حال عابرة لحياة قاسية، في المساء بعد أن انتهى كل شيء، كانت داره أقصد دار وزارة التربية، قد خلت من العم علي، الجار الطيب الذي كان عندما يفتقدني بالجامع يزورني وحينما أسافر بصحبة العائلة يحافظ على مراقبة داري، وصدقوني، برحيله من الحي كأنه قد رحل واحد من أسرتي، وتأثرت برحيله بالغ الأثر، وقلت في نفسي وأنا أودعه، (اللهم ارحم ضعفه وارزقه في دنياه فأنت خير الرازقين يا الله) إنه (الجار) الطيب الذي سرعان ما مضت الأيام محملة بالأعوام ومضى لحال سبيله يبحث عن مصادر رزق أخرى بعيدا عن شح الفقر والعوز، وأنا أودعه أيضا تمثلت بقول الشاعر: |
نعد الليالي والليالي تعدنا |
والعمر يمضي والليالي بزايد |
قولوا لبيت الفقر لا يامن الغنى |
وبيت الغنى لا يامن الفقر عايد |
الجار الثالث: لا يزال في الخمسينيات من عمره، وأمامه سنوات قليلة، قبل أن يتم طرده من رحمة، عفوا من ملحق وزارة التربية، فهو (الحارس) الذي أقل عمرا من الاثنين السابقين، وهو الأقل حديثا معي، ولكنني وجدته الرجل الصابر الصامت، فهو بمثابة (المستودع) المليء بالأحزان المريرة ولكنه أغلق مستودعه العقلي بالضبة والمفتاح، ورمى المفتاح بالبحر، ومن الصعب العثور على المفتاح حاليا. |
هؤلاء الثلاثة (المعذبون) كما في رواية طه حسين، والمعني بها البؤس والحرمان، بل المسحوقين والمحرومين من مباهج الدنيا، هم جيراني الذين جلست وتحدثت إليهم كثيرا بصفتهم (حراس) المدارس التي تقع على مقربة من منزلي، فتكونت لديه معلومة اجتماعية في منتهى الشفافية، عن الفقر ومأساته وتعاسته، أحسب أنني أتيت على ثلاث من حالاته أشد فقراً وبؤساً. أولهم الراحل عم علي، وثانيهم الناقل من الحارة عم علي، وثالثهم الذي ينتظر مصيره بعد انتهاء صلاحيته. |
كل هذا الوضع الاجتماعي بمثل هذه الطبقة الكادحة يحز بالنفس ويدعو للشفقة عليهم، ولكن الذي يحز بالنفس أكثر هو حينما يسمع ويشاهد المرء عن الأغنياء وإن شئت الأثرياء حينما تكون مساعداتهم مقصورة للغير دون أبناء (الوطن) وإليكم طرفة، فقد اتصل أحد الأثراء من أبناء الوطن بمعد برنامج (تلفزيوني) حيث المذيع يستضيف خمسة أشخاص بنين وبنات، وهم من غير أبناء الوطن ويشتكون وضعهم الاجتماعي، فهم لا عمل لهم ولا مصاريف معيشية لديهم، ليقول أخونا في اتصاله إنه مستعد لإيجاد أعمال لهم ويتكفل بالمصاريف كلية!! عجبي، لدينا من الفقراء العفيفين من هم بحاجة للمساعدة أكثر مما هناك يا رجل، وإنه لا يسعني إلا قول الشاعر: |
أمة قد فت في ساعدها |
بغضها للأهل وحب الغرباء |
|
|