إنه من دواعي فخرنا أن ثقافتنا العربية من منطلقاتها الرفيعة لا تترك شاردة أو واردة تمس نمط الحياة وبواعث الفكر وتكوين الاتجاهات والعلاقات إلا ونتناولها بالفحص والتحليل والتشغيل العقلي بغية التشخيص والتدبر في أمور المعالجة الرصينة وبث الوعي بين الناس وتوعيتهم بالمخاطر لدرئها وعدم العمل بها أو القرب منها أو العود إليها. وما أثار لدينا هذا القول ما نراه من إقبال بعض مواطنينا لما يدعى (بالعلاج الروحي) (أو الرقية بالطلاسم) أو (قراءة الطالع) سواء كان الإقبال على هؤلاء الدجالين أو السحرة والمشعوذين بالداخل أو الخارج.. لا يهمنا المكان ولكن يهمنا الفعل ذاته، حيث إن هؤلاء طالبي العلاج الروحي لحل مشاكلهم الصحية والنفسية وأيضاً الاجتماعية بما لا يدرك مغزاه أو معناه لأنها رؤية خرافية في تفسير المشكلات وتجاوز الصعوبات التي يعاني منها الكثيرون خلافاً للرقية الشرعية والطب النفسي. وفي البدء يترامى إلى أذهاننا عدة تساؤلات أطرح أهمها -بالنسبة لهذا المقال- على النحو التالي:
- ما علاقة هذا الإقبال- اللامنطقي- بمستوى التعليم ومردود الخبرة الإنسانية، والتجربة الحياتية؟
- ما أثر هذا الإقبال -اللاموضوعي- على الواقعية العلمية، والأسس الفكرية والمبادئ الدينية؟
- ما مردود هذا الإقبال على مسلكيات الفرد وكيان المجتمع ونمائه وتقدمه؟
لذا يتعين علينا أن نفرق منذ البداية بين أمرين:
الأول: أن معظم المقبلين على هذا النمط العلاجي- الغريب والمثير- وعلى اختلاف فئاتهم ومستوياتهم ومنذ الأزل عبر مسيرة التاريخ الإنساني يزعمون أن الحل الناجح لمشكلاتهم هو لدى هؤلاء المعالجين الروحيين، حيث يلعب الإيحاء والخيال الخرافي الدور الأساسي في طمس الحقائق عملاً بفنون الإقناع والتمويه والخداع السمعي والبصري الذي يتعين استخدامه للتأثير على المترددين على محلات المعالجين الروحيين كي يدخل في روعهم أن مجرد من يد (المعالج على موضع العلة أو على رأس المصاب أو تعليق تميمة بالرقبة أو الدهن بالزيت.. أو.. أو.. هو العنصر الرئيس في تحقيق ما يصبو إليه هؤلاء المترددين.
والجدير بالذكر في هذا الصدد أن اللجوء للخرافة ذو صلة وثيقة بالجهل العام الأبجدي والثقافي والديني بل إنه يمثل العمود الفقري للارتداد.. والنكوص الحضاري.
الثاني: أن هذا التيار الفكري الخرافي وما يتعبه من اتجاهات نفسية واجتماعية التي تحبذ اللجوء لمحلات المعالجين الروحيين وتقبلهم لمقطوعات الدجل التي يعزفها هذا المعالج أو سماسرته المندسين بين المترديين لتهيئتهم لتقبل عملية الإيحاء والوثوق في الوصفة المرسومة. والحقيقة التي تفرض نفسها هنا، هو أن ثمة عقولاً جنحت بتفكيرها صوب تفسير بعض الظواهر المعقدة، والمشكلات العويضة والمخاوف المروعة، والخيالات الجانحة والأوهام الفجة؛ للخروج من مأزقها عن طريق الارتماء في مهاوي الخرافات والخزعبلات والمزاعم الهوجاء والأفكار الضحلة، فعساه طريق سهل ويسير للخروج الآمن.
والجدير بالقول أيضاً أن لكل عصر خرافاته.. ولكل بيئة أساطيرها وهذه وتلك تمثل قوة الدفع للمناشط والمسلكيات المختلفة لكل من الفرد والجماعة، ويساهم في نشرها الإعلام وحكايات الكبار، حيث تساهم في ترويج الخرافات والضلالات وأمور الدجل والشعوذة وفك العمل بظواهره الشاذة تحت مظنة (الكرامة) و(معجزة الشفاء) التي كثيراً ما تضر ولا تنفع.
إن هذه العقول التي جنحت بفكرها قد أدارت ظهورها للعلم كما عطلت ملكة التأمل والتدبر والتفكير، وخاصمت المتخصين ونواتج أعمال المراكز البحثية. ولجأت إلى هؤلاء الدجالين تاركة الرقية الشرعية التي أمر بها الشارع الحكيم وغير معترفة بالطب النفسي الحديث، حيث إن أغلب الأمراض النفسية في الوقت الحاضر من قلق واكتئاب ووساوس وفصام علاجها بالرقية الشرعية إضافة إلى الطب النفسي من جلسات وعقاقير وليست باللجوء إلى السحرة والمشعوذين والدجالين الذين أكلوا أموال الناس بالباطل.
فنجد بعض الناس عندما يصاب بمرض نفسي يتبادر إلى ذهنه أنه مصاب بسحر بفعل فاعل وأنه مصاب بعين حسد، وهنا لا ننكر هذا ولكن ليس كل مرض نفسي يوعز إلى السحر أو العين فيلجأ إلى بعض القرائين الدجالين ويدخل في متاهات لا أول لها ولا آخر متوهماً أنه مصاب بما قال له هذا الدجال، وقد يطلب منه أعمال قد تخرجه عن ملته ودينه والعياذ بالله فيدخل في دائرة لا يخرج منها إلا وقد اعتلت صحته وخسر دينه وماله.
والجدير بالتنويه إليه، أن أمر اللجوء إلى الدجالين والمشعوذين والقرائين بالطلاسم والسحرة وأرباب العلاج الروحي.. وغيرهم، لم يكن قاصراً على مجتمعاتنا العربية وحدها بل نجده في أعتى الدول التي تقدمت في العلم والتكنولوجيا حيث يوجد بل وينتشر في ربوع بلادهم ما يطلق عليه (طلب الخوارق). وأنهم في الغرب يتشدقون بمعجزات طب الخوارق ويحذون في ذلك حذو بعض دول أفريقيا.
والواقع أن قائمة الخرافات والقائمين عليها طويلة ومليئة بالغرائب، ومن أسف أنه ما زال البعض يعتقد أن المرض صنيع الأرواح الشريرة والمعجزة طريق الخلاص منها.ولهؤلاء المخدوعين أدعوهم للتبصر والتعقل والتفكر في قول رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه: (عباد الله تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء، إلا الهرم) وقوله ما معنى ما أنزل الله من داء إلا له دواء. والله من وراء القصد.