إن المتابع بدقة لحديث ولاة الأمر في هذا البلد الكريم يجد في ثنايا حديثهم عبارات تضمنت إشارات تضع الأشياء مواضعها، وتعيد الحقوق إلى نصابها، مما ينم على كمال العقل وحسن التصرف، وقد قيل لعلي رضي الله عنه: صف لنا العاقل؟ قال: (هو الذي يضع الشيء مواضعه). وإن المتأمل لحديث صاحب السمو الملكي أمير منطقة الرياض الأمير سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله ووفقه - نموذجاً - يجد في ثنايا حديثه العام والخاص أنه يحدد ويشدد ويعدد ويؤكد على الحقوق والواجبات والقضايا والمسلمات التي قامت وتقوم عليها هذه الدولة - حرسها الله - ولا أدل على ذلك ما تحدث به سموه في الحفل الأول السنوي لسعفة القدوة الحسنة. |
فقد تابع الجميع حديث سموه، بعناية واهتمام حيث جاء حديثه - وفقه الله - مفصلياً وشمولياً لأطرٍ مهمة غفل أو تغافل عنها كثير ممن يعنى من الباحثين والمهتمين بمعرفة الواقع السعودي حُكْماً وحُكَّاماً ومحكومين، وقد تناول هذا الحديث أطراً شرعية وسياسية واجتماعية وحقوقية وإنسانية، وتوجيهات عالية، وسنة حسنة سامية، من الواجب أن تعلن فتذكر، وأن تشاع فتشكر (ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله) - كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم -، ومن الواجب على المهتمين والدارسين قراءة حديث سموه قراءة منهجية، بتأنٍ وتأمل، لكشف مكنونه ودرره، وحدوده وأطره، وانطلاقاً من هذا الواجب أحببت أن أقف مع حديث سموه الكريم في هذا الحفل، بعض الوقفات التالية: |
الوقفة الأولى: البلاغة في الحديث من غير تكلف والاختصار فيه، فيفهمه العام والخاص، ف(خير الكلام ما قل ودل ولم يطل فيمل)، وقد سأل المأمونُ الحسنَ بن سهل عن البلاغة في الحديث، فقال الحسن: (ما فهمته العامة ورضيته الخاصة). |
ولا غرو أن حديث سموه هذا فهمت دلالاته ومآلاته العامة والخاصة على حد سواء. |
الوقفة الثانية: الإيمان بخصوصية الثقافة والانتماء لهذه البلاد والمحافظة عليها؛ فهي كما قال سموه: (بلاد الحرمين الشريفين وبلاد العروبة نعتز ونفتخر بذلك). |
حقاً إنها جملة تحمل في أحرفها دلالات عظيمة، يفهمها من له أدنى مسكة عقل، والإشارة إلى أن هذا الانتماء ينطلق من قاعدة شرعية وفطرية، فهذا البلد هو بلد الحرمين الشريفين، ومهد الإسلام وموطن العرب والعروبة، فخصائص هذه البلاد ليست عملية كسبِيَّة أو تقاليد عُرْفية أو موروثات قَبَلِيَّة أو عِرْقِيَّة؛ بل هي مِنَحٌ ربانية، ومواهب إلهية، وخصائص شرعية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. |
ويمكن معرفة خصوصية هذه البلاد العربية السعودية وخصوصية مجتمعها بمعرفة خصائص البلاد التي اختصَّها الله بها من دون سائر البلدان بخصائص متعددة، إذ بينهما من التلازم والترابط مالا ينفك أحدهما عن الآخر، وقد أفاض في هذا الموضوع فضيلة الشيخ بكر أبوزيد - رحمه الله - في كتابه: (خصائص جزيرة العرب) فليراجع. |
الوقفة الثالثة: التركيز على العقيدة الإسلامية بمصدريها (الكتاب والسنة)، وأنها هي السبيل لجمع الكلمة ووحدة الصف، وأننا نحن كشعب حكاماً ومحكومين يجب أن نكون واعين لمسؤوليتنا تجاههما، فهما أمانة يجب الحفاظ عليهما، فبسببهما نهضت الأمة العربية وتوحدت وسادت منذ عهد النبوة؛ بعد أن كانت ضعيفة متفرقة، ممزقة كل ممزق، فقال وفقه الله: (نعي مسؤوليتنا عن عقيدتنا وديننا التي قامت عليها النهضة العربية بعدما كنا شعوباً وقبائل)، نعم؛ لقد كان العرب في فرقة وتشتت، فلما اعتصموا بدين ربهم وتمسكوا بعقيدتهم كان لهم العز والنصر والسؤدد، وصدق الله تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، وقال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } بل لا نذهب بعيداً فقد كان هذا المجتمع في فرقة وشتات وعدم أمن وأمان، حتى منَّ الله عز وجل على هذه البلاد بالإمام محمد بن سعود، فآزر الشيخَ محمد بن عبدالوهاب على نصرة دين الله وإعزازه فحقق الله مرادهم، وما نعيش فيه الآن إنما هو ثمرة من ثمار وحدتهم وصدق دعوتهم وسلامة نيتهم جزاهما الله خيراً، فقال سموه وفقه الله: (وحَّدنا كتاب الله وسنة رسوله... أحسن تعبير عن هذه الوحدة التي بدأت في عهد الإمام محمد بن سعود بعدما تبنى دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب في الدولة السعودية الأولى وأبناؤه في الدولة السعودية الثانية وفي دولتنا هذه دولة عبدالعزيز). |
الوقفة الرابعة: التأكيد على أن هذه الدولة قامت في تشريعاتها ونظمها على الكتاب والسنة، وفي هذا يقول سموه: (ولقد قامت هذه الدولة والحمد لله على الكتاب والسنة وليس أفضل من ذلك تشريعاً ولا نظاما)، ويقول أيضا وفقه الله: (وهذه الدولة والحمد لله تسعى في تشريعاتها المختلفة والمستمدة من الكتاب والسنة)، ولا غرو في ذلك، فما قاله سموه إنما هو تذكير للناسي وتعليم للجاهل، فالكتاب والسنة إحدى ركائز هذه الدولة المباركة، بنص دستورها في المادة الأولى من النظام الأساسي للحكم، ونصه: (إن المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية دينها الإسلام ودستورها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) وفي هذا إشارة إلى أن أساس تشريعات هذه الدولة وأنظمتها تنبع من خلالهما وفي ضوئهما، فإن المملكة تعد مهد الإسلام ومنطلق الرسالة المحمدية، فكان لهذا تأثيره المباشر في صياغة دستورها وتشكيل أنظمتها. |
الوقفة الخامسة: الحض على الرجوع إلى كلام الله تعالى وكلام رسوله لحل المشكلات ودفع المعضلات وما أجمل قول سموه - وفقه الله - حينما قال وكرر في كل مناسبة: (إن كل من يقرأ منا القرآن سيجد الحلول لكل مشكلاته، ومن يقرأ السنة النبوية كذلك) لاغرو أن من تمسك بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة الصحيحة وعمل في حدودهما فقد وجد العلاج الناجع لحل مشكلاته السياسية والاجتماعية وعصم من الضلال الديني والدنيوي، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا )، وحبل الله هو القرآن ويُرَادُ به أيضا الإسلام - ويُرَادُ به العهد - فحبل الله يراد به هنا الإسلام والقرآن واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم . |
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فإنه من يُعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور )، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنها ستكون فتن . |
قالوا : وما المخرج منها يا رسول الله ؟ . |
قال : ( كتاب الله ) ، وقال: (إنني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي - كتاب الله وسنتي). |
الوقفة السادسة: بيان أن الإسلام حينما يأمرنا بالتمسك بالكتاب والسنة، فإنه لا يدعو للجمود والانغلاق كما قد يظنه البعض؛ بل يأمرنا ويحضنا بالتفكر والتفكير والتجديد في إطارهما وفي هذا يقول سموه: (وديننا يأمرنا أن نفكر وأن نعمل وأن نجدد في حدود ما فرضه الله عز وجل وما جاءت به السنة النبوية)، فالإسلام يرفض الجمود والتقليد والتقوقع، أو مصادرة العقل أو معارضته؛ أو ممارسة الإقصاء والإلغاء للآخرين؛ إذ الإسلام القائم على الكتاب والسنة منهج علمي وعملي شامل ومتكامل تجاه أمور الحياة كلها. |
الوقفة السابعة: إدراك ولاة الأمر في هذه الدولة عظم المسؤولية والأمانة التي حُمِّلوا إيّاها، وفاءً للعهد والوعد الذي قطعوه على أنفسهم في رعاية مصالح العباد والبلاد، وحرصاً على براءة ذممهم من الحقوق، وفي هذا يقول سموه: (الدولة ترعى شعبها والملك وولي العهد يرعون شعبهم.. وأقول وبكل صراحة إنهم جميعاً يسعون بما يصلح هذه البلاد وشعبها). |
الوقفة الثامنة: إن معرفة ولاة الأمر لأبعاد تلك الأمانة ومسؤوليتها جعلت بعضهم يوصي بذلك ويذكر بها واضعين نصب أعينهم قوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، فها هو خادم الحرمين الملك عبدالله - حفظه الله - يطبق ذلك عملياً، فيقول سموه واصفاً ذلك: (الملك عبدالله حملني أكبر مسؤولية عندما يأتيه أحد بشكوى أن يرسله مع مندوب يقول: هذا من ذمتي إلى ذمتك)، وهاهو سمو الأمير يطبق ذلك أيضا واقعياً، فيقول ناصحاً وموجها ومذكراً بأن يراقب المسؤول وأي إنسان ربه في عمله وأن يتفكر في مآله حينما يوضع في قبره، وأن على الإنسان العاقل أن يجعل دنياه جسراً وزاداً يتزود منها من الصالحات لآخرته: (وهنا الإنسان منا إذا أصبح مسؤولا عما يهم المواطن يجب عليه قبل كل شيء أن يراعي اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم مهما كانت هذه الدنيا، ومهما عظم شأن الإنسان فيها سيأتي يوم من الأيام سيدفن في قبره ويواجه ما عمل، فنجعل من دنيانا تمهيداً لآخرتنا). |
ويقول أيضا وفقه الله: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، من بيته إلى أكبر عامل في الدولة يجب أن يخاف ربه قبل كل شيء ثم يسأل ضميره ويسأل هل هذا العمل الذي عملته هذا لو عوملت به أنا اقبله وإلا لا، الإنسان يهمه خوف الله وطاعته عز وجل ثم تحري الصدق،)، (يا أخوان يجب أن نخاف الله قبل كل شيء ثم نقول الإنسان بشر.. ومرض بسيط يحط من كل جسمه ولا ينفعه نفوذه ولا ماله ولا مركزه إلا من آتى الله بقلب سليم). |
الوقفة العاشرة: الحض على المناصحة في وجهها الشرعي والأدبي، وذلك بالكتابة لسمو الأمير أو نائبه لإعلامهما وإبلاغهما عن كل قرار يخالف القرارات الشرعية أو الأنظمة المستمدة منها، أو يخالف القرارات التي تحفظ كرامة المواطن وحريته، وفي هذا يقول سموه وفقه الله: (قلت للمسؤولين داخل الإمارة أو في كل دائرة قلت من رأى شيئاً يخالف القرارات الشرعية أو الأنظمة المستمدة منها أو حريات المواطنين أو كراماتهم أو ما يهمهم فعليه أن يكتب لي وعليه حتى وإن كان الأمر مني أو من نائبي فليأتي ويقول هذا خطأ). |
الوقفة الحادية عشر: إن على المسؤول إذا اتضح له الخطأ في قرار أن يرجع عنه، فالاعتراف بالحق فضيلة وشجاعة أدبية لا يقدم عليها إلا من بلغ في العقل والشجاعة والكرم والتواضع مبلغه، قال أحد الحكماء: (وإنما يستدل على تمام عقل الرجل وتواضعه في عقله بحسن استماعه للمحدث إن كان به عالما وسرعة قبوله للحق وإن كان ممن هو دونه وإقراره على نفسه بالخطأ إذا جاء منه). |
ولقد ضرب سموه الكريم في هذا مثالاً يحتذى، وصورة رائعة نادرة، تدل على سمو النفس ورجحان العقل والإنصاف والعدل، وفي هذا يقول سموه: (قبل أكثر من عشرين سنة أتاني أحد الموظفين في إحدى المحافظات معه خطاب يقول وردتنا معاملة كذا، وهو موظف صغير، ولاحظت أن الأمر الأخير يناقض الأمر الأول، والأمر الأول على ما اعتقد أنا أنه كان على ما أذكر إما حكما شرعيا أو شيئاً قريباً من هذا وما أحد لفت نظري فطلبت استدعاء الموظف فظن البعض أنني استدعيته لأعاقبه، ولكن لما أتاني شكرته وأكرمته ورقيته وقلت هكذا يكون الإخلاص). |
الوقفة الثانية عشر: لزوم الصدق والتحري والتثبت من الأقوال وعدم التسرع في إصدار الأحكام على الأفراد أو الجهات، حتى ولو جاء الخبر عن ثقة، وفي هذا يقول سموه الكريم: (أنا شخصيا لا أقبل مهما كان الإنسان إلا أن أسأل قبل أن اتخذ قراري وبعضهم يحرجني ويطلب مني أن أصدق ما قاله فأقول له أنا ما عندي مانع بس تكتب تعهد إذا أحد قدم دعوى فيك أصدقه وإلا كما تدين تدان، والإنسان معرض للهوى ومعرض للخطأ ومعرض أيضا لراويتين صحيحتين وعلينا التحري والتأكد). |
هكذا العدل والإنصاف، وهذا هو شأن خيار المسلمين وعدولهم لزوم التثبت والتحري، امتثالاً لقول الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }، قال بعض المفسرين معلقاً على قول الله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}: (دلت هذه الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة ووجوب التثبت والتأني وترك الاغترار بظواهر الأمور والمبالغة في التفحص حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه من التقريب أو الإبعاد). |
الوقفة الثالثة عشر: تجلي الصورة الإنسانية في حقيقتها وسمو النفس وارتقائها في أعلى مراتبها عندما نتأمل قول سموه في ختام حديثه: (الحمد لله اللهم لا تجعلني ظالما ولا مظلوما ولا شقيا ولا محروما وأخرجني من الدنيا معافى في ديني وفي ذمتي وأقول اللهم اجز خير من أحسن إلي واعف عن من ظلمني وبهذا أختم كلامي)، فعلاً، إنها معانٍ إنسانية سامية عظيمة رقيقة تدل على مراقبة الله والذات، والإحسان والصفح والعفو، والاعتراف بالفضل والبعد عن قصد الجور والظلم، وحري بنا كأفراد ومسؤولين أن نعيها ونفهم معانيها وأبعادها، ومالنا إلا أن نقول جميعاً بحق وإنصاف وعدل: جزاك الله خيراً يا سمو الأمير وشكر الله لك، وأطال الله في عمرك على خير وعافية، وجعل ما قلته في موازين حسناتك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله)، قال بعضهم: |
ومن يشكر المخلوق يشكر لربه |
ومن يكفر المخلوق فهو كفور |
|