لقد وهبنا الله العقل ليكون ميزاناً نزن به أمورنا وتصرفاتنا، وعقالاً نعقل به نشاطاتنا الحياتية، ومرشداً لنا لما هو مستحسن ومتصوب، ومع ذلك هناك كثير من الناس الذين لا يستخدمون عقولهم كما يجب، وينظرون للأمور نظرة سطحية، وبهذا يقعون في الخطأ ويجانبهم الصواب، وعلى الرغم من ذلك فهم يعتقدون أنهم حققوا السبق في اختيارهم وأفعالهم وأقوالهم، وأنهم على حق فيما لديهم من أفكار أو مفاهيم، مع العلم أنهم قد تبنوا إجراءاتهم بالاعتماد على المسميات والمراتب بغض النظر عن الأفضل والنوعية والجودة والموازين التي يجب عليهم أن يعتمدوها، وفيما بعد يكتشفون في وقت متأخر أنهم كانوا مخطئين ويندمون على تسرعهم حين لا ينفع الندم.
يسود في كل مجتمع مجموعة من الاصطلاحات التي تتكرر في الأحاديث اليومية وفي كل مناسبة، ومن هذه الاصطلاحات السائدة في مجتمعنا مصطلح (الأول) ومصطلح (الأفضل)، ومن سوء الحظ أن أهل مصطلح (الأول) يشكلون الأغلبية العظمى في مجتمعنا، وأما نصيب أهل المصطلح الثاني (الأفضل) فهم قلة، وإذا حدث نقاش بين أنصار المصطلح الأول وأنصار المصطلح الثاني نجد أن أهل المصطلح الأول يصرون على رأيهم ويتمسكون به ويقولون إن من يحمل مرتبة الأول ويوصف بهذه الصفة هو الأفضل على الرغم من أن الواقع يدحض هذا الرأي.
لقد تهادى إلى سمعي أن مصممة أزياء في معهد أكاديمي لتعليم تصميم الأزياء قد أعطت طالبتين قطعتين من القماش، وطلبت منهما أن تصمم كل منهما ثوباً جميلاً، وكانت إحدى هاتين الطالبتين هي الأولى في الفصل، وفي اليوم الثاني صباحاً جاءت الطالبة ذات الترتيب الأول في الفصل بالثوب بعد أن أنجزته، أما الطالبة الثانية فقد أحضرت الثوب مساء متأخرة عن زميلتها بضع ساعات، وعندما أرادت المدرّسة تقييم الثوبين وضعتهما أمام الفصل وطلبت من الطالبات أن يحكمن أي الثوبين هو الأفضل والأجمل، وكان الجواب من الأكثرية أن ثوب الطالبة الأولى هو الأفضل، وقد اعتمدن في حكمهن على أن الأولى قد سبقت الثانية في إنجاز الثوب، وهي الأولى في الفصل.
أخذت المدرّسة الثوبين وفحصتهما بدقة، وتبيّن لها أن هناك خمس غرزات خطأ في ثوب الطالبة الأولى في الفصل، وأن ثوب زميلتها كان خالياً من العيوب، فأمسكت به ورفعته وقالت للطالبات هذا هو الثوب الأفضل لأنه لا يوجد فيه عيوب.
وفي إحدى الدول العربية ظهر إعلان عن حاجة الدولة إلى مهندس كهرباء متخرج من كلية تقنية لصيانة المنارات البحرية، فتقدم خريج من هذه الكلية وكان ترتيبه (الأول) بين المتخرجين، وعندما قدّم ملفه رحّبت به لجنة الالتقاء واعتمدت تعيينه، وفي اليوم الثاني باشر العمل ووجد أمامه تقريراً يشير إلى أن أضواء إحدى المنارات بحاجة إلى تبديل، فذهب إلى الموقع المذكور وصعد على السلم لاستبدال المصباح المعطوب، واستمر في محاولة إخراجه مدة عشر دقائق، ولكنه فشل في ذلك، وكان يقف إلى جانبه أحد العمال الفنيين الذين تمرسوا في العمل فاستأذنه بتبديله وصعد على السلم، وفي أقل من دقيقة أنجز المهمة ونزل، وعندها سأله المهندس صاحب الترتيب الأول: كيف فعلت ذلك بهذه السرعة؟ فقال له: إن هذا النوع من المصابيح يحتاج إلى ضغطه أولاً ومن ثم يحرك إلى اليمين بزاوية مقدارها 45ْ، وبدون ذلك لا يمكن إخراجه.
وهكذا نجد أن هذا العامل الفني الذي لم يدخل إلى معهد أو جامعة قد تفوق على صاحب المرتبة الأولى الذي يحمل صفة (الأول)، وكان هو الأفضل في تأدية المهمة. وفي مناسبة أخرى أعلنت إحدى الجامعات عن حاجتها إلى مدرس لمادة الفلسفة، وتقدّم إليها مجموعة من المدرسين، وكان بينهم زميلهم الذي تخرج بمرتبة الأول، وقد وقع الاختيار عليه، وعندما باشر العمل اشتكى منه الطلاب؛ لأنه لم يستطع أن يوصل المعلومة إليهم بالطريقة السليمة، وذهب الطلاب وطالبوا بأن يدرسهم أحد الأساتذة الذي مارس العمل، ووافقت الجامعة على اعتماد ذلك الأستاذ الذي لم يتخرج بمرتبة الأول؛ واستناداً إلى خبرته؛ فقد عرف كيف يتعامل مع الطلبة وكيف يوصل إليهم المعلومة، وكان الطلاب في غاية السعادة، ومرة ثانية تفوق الأستاذ بخبرته واستحق أن يعطى مصطلح الأفضل. وفي الواقع عندما نصف إنساناً بمصطلح الأفضل فإن ذلك يعني أن هذا الإنسان قد تفوّق على الآخرين في إنتاجيته الراقية ذات النوعية العالية التي تحقق القناعة والرضا لدى الآخرين، وإذا وصفنا الأشياء فإن ذلك يشير إلى أن ذلك الشيء قد تحققت فيه المواصفات القياسية التي وُضعت أصلاً بعد تجربة أثبتت النوعية الجيدة وبالتالي تم إنتاج تلك السلعة بعد أن ثبت أنها الأفضل، وفي هذا المجال نجد أن عدداً من السلع تحمل ماركات عالمية، ولها زبائنها؛ لأنها أثبتت أنها هي الأفضل بعد تجربتها.
وقد أعجبني في الغرب واليابان وماليزيا الأسلوب الذي تعتمده معظم الشركات في انتقاء موظفيها؛ إذ إنها لا تعتمد على الشهادة فقط، ولا يهمها ترتيب حامل الشهادة، سواء كان الأول أو غير ذلك؛ فهي تقسّم الأتعاب التي تريد أن تدفعها إلى ثلاثة أقسام: ثلث للشهادة وثلث للخبرة وثلث للمقابلة الشخصية، ومن يفشل في المقابلة الشخصية لا يعتمد توظيفه؛ وذلك لأن الحضور الشخصي هو الذي يعطي للإنسان فرصة النجاح بعمله، وباعتمادهم مثل هذا الأسلوب يتفوقون علينا في كيفية انتقائهم للعمالة، ويندرج تحت هذا التفوق طريقة اختيارهم للسلع؛ حيث نجد أن الفرد يضع في اعتباره الجودة والأفضل، فيقدم على شراء السلعة أو يحجم عنها، وكأنه بذلك يريد أن يشاركه ما يشتريه في عمره، وهم بذلك على حق، ويكفي القول إنهم يستفيدون مما يشترونه لفترة طويلة كافية لأن تجعلهم سعداء في تصرفهم بتلك الطريقة.
ومن أجمل ما قرأت حول الأول والأفضل أن صديقين قررا أن يستثمرا أموالهما في مجال الفندقة، وكان الأول قد درس فن الفندقة في معهد مختص وتخرج بمرتبة شرف، أي أنه الأول، وأما الثاني فلم يلتحق بالمعاهد وإنما عمل عاملاً في الفنادق وتدرج في وظيفته من عامل تنظيف إلى مشرف على ترتيب الغرف ونظافة الأسرّة إلى عامل في المطبخ، ومن ثم مأمور سنترال وبعدها إلى مشرف استقبال الزبائن ومن ثم محاسب وهكذا.. لم يبق عمل في الفندق إلا واطلع عليه ومارسه، وقام كل من الصديقين ببناء فندقه وتجهيزه وتوظيف ما يحتاجه من الموظفين، وبدأ العمل، ولدهشة صاحب الشهادة وفن الفندقة وجد أن فندقه لا يستطيع أن ينافس فندق صديقه الذي لا يحمل شهادة، ولم يكن أمامه إلا أن يسلم إدارة فندقه لصاحبه، وبالفعل فقد تعاقد معه على إدارة فندقه ولم يمضِ وقت طويل حتى وجد أن فندقه يغص بالزبائن تماماً كفندق صاحبه الذي لا يحمل شهادة، وهنا أيضاً نجد أن الأفضل ليس ذلك الإنسان الذي يحمل صفة الأول، وإنما هو الذي يحقق النجاح والراحة لنفسه ولمن يتعامل معه.
وإني أتمنى أن نترك مفهوم ومصطلح الأول، وأن نستبدله بمفهوم ومصطلح الأفضل، وأن نسلك سلوك الآخرين الذين سبقونا في ميادين كثيرة، وأن نفكر تفكيرهم الذي حقّق لهم الحصول على الأفضل في كافة مجالات الحياة.