وعلى ضوء هذا الاختلاط بين مستويات الإبداع السردي، والتوسل بحتمية التحول والتجديد، رصد المؤرخون ذلك دون تدخل نقدي، وذلك حين لمسوا التحول البطيء من نزعة الأسْطرة والفروسية والمثل العليا بعيدة المنال ومستحيلة الوقوع إلى التحليل النفسي للنوازع والممارسات والتحول
إلى التوله والأحلام والهيام بالطبيعة، ثم الانعكاس في حمأة الواقعية
وما يتطلبه هذان الاتجاهان من لغة تراوح بين الواقعية المتدنية والإغراق في الحكم ولما لم يكن حديثي خالصاً للتقصي التاريخي والفني واللغوي والموضوعي للإبداعات السردية، فقد قنعت بالإشارات الخاطفة لتكون مقدمة بين يدي النجوى حول القاص والروائي عبدالله الجفري ومدى موقعه من هذه الظواهر من خلال آخر مجموعاته القصصية.
وحديثي عنه مدفوع بمحرضين:
- وفاته وهذا الحدث المؤلم يتطلب الوفاء له وإعادة قراءته وإبراز الجوانب الإيجابية في جانب من إبداعاته.
- تميز لغته وجمال أسلوبه ومحاولته الجادة لإتقان فنياته في كثير من أعماله، والإبداع - عندي على الأقل - لغة، فمتى فقد الإبداع شعرية الشعر وأدبية السرد أصبح كلاماً إبلاغياً لا بلاغياً، والدراسة ستكون مقتصرة على مجموعته القصصية (الظمأ) التي صدرت عام 1400 وهي ثالثة المجموعات الثلاث: (حياة جائعة) و(الجدار الآخر) وهذه المجموعة تحتوي على تسع قصص قصيرة.
ولقد يكون من متطلبات الموقف أن أشير إلى أنني قد أختلف مع الجفري في بعض ما يذهب إليه من إيغالات موضوعية أو استغراقات (رومانسية) وهو اختلاف لا يحول دون التعامل مع إبداعاته، ولا سيما أنه ترك من خلفه أعمالاً روائية وقصصية ولا يجوز لمشتغل في الحركة النقدية في المملكة أن يتخطاها ولا أن يقلل من شأنها، وإذا كان احتراف الكتابة الصحفية قد أدى إلى إخفاقه في بعض الجوانب الفنية واللغوية فإنه بلا شك جلَّى في جوانب أخرى:
(وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه).
ولا شك أن حضوره الإعلامي المتواصل قد فوَّت عليه الإتقان الفني والصفاء اللغوي الذي كان حريصاً عليه كل الحرص من قبل أن يجرفه طوفان الإعلام الصحفي، ولكنه فوات لا يسلبه التميز والمفاجأة، وبخاصة أنه حين استغرقه العمل الصحفي انقطع أو كاد عن الإبداع القصصي، والدليل على ذلك أن آخر مجموعاته القصصية التي نحن بصدد دراستها صدرت قبل ثلاثة عقود، وأحسبه يشبه إلى حد كبير (إبراهيم عبدالقادر المازني) الذي انقطع للعمل الصحفي تاركاً الإبداع الشعري القصصي والترجمة التي امتاز بها من بين زملائه في (مدرسة الديوان) والذين أدركتهم حرفة الصحافة وأرهقهم عملها سموها (مهنة المتاعب).
والجفري في أعماله الإبداعية كافة يراوح بين السياسي والاجتماعي ورومانسية لا تكاد تنفصل عن الأحداث اليوم للناس البسطاء الذين يشغلهم العمل اليومي، ونزوعه السياسي لا يكاد ينفصل عن الأحداث العارضة والآنية وهو أميل إلى الرؤى الاجتماعية متخذا المرأة الملاذ الأول والأخير، فهي الأم والزوجة والزميلة والعشيقة، وهي المتسلطة والمقموعة.
والجفري القارئ النهم للإبداعات القصصية المصرية حاول الخلوص من هيمنة اللغة والشكل والموضوع، ولكنها محاولات تتعثر في المجال اللغوي، لقد أثرت اللهجة المصرية على الحوار والسرد معاً، أما البعد الموضوعي فقد حاول أن ينطلق من المجتمع الحجازي مجسداً همومه اليومية وأحداث أسره الشائعة، ولا أستطيع أن أقطع بأن قصصه ورواياته وثائق محلية إذ لم يرتهن نفسه لقعر الواقع كما فعل (نجيب محفوظ) الذي قيل بأن جائزة نوبل أخذت طريقها إليه من استغاله في الواقعية وانطلاقه من قعر الواقع، ولا أظن ذلك السبب وجيها، ولقد عالجت في مجال آخر الطريق إلى نوبل، ولم أكن في ذلك مقللاً من شأن محفوظ ولكنني متهم لأمانة الجائزة، وواقعية الجفري تكاد تكون ذات خصوصية تختلف عن واقعيات عدة عرف بها عدد من الروائيين والقصاص، وهي خصوصية ترتبط بالأرض التي انطلق منها ومن العادات والتقاليد التي أشربها، وإن شطت به بعض المبالغات وعصفت به بعض التهويمات (الرومانسية) وبعض مبالغاته تذكرنا بالمبالغات العاطفية التي ومع فيها (مصطفى لطفي المنفلوطي) في بعض إبداعاته ومترجماته.
لقد شكلت علامات المرأة بالرجل منطلقاً لعدد من المبدعين، والقصص التسع نحن بصدد دراستها لا تكاد تخلص من تلك العلاقة حتى لقد أصبح الجفري في سائر أعماله الإبداعية الناطق الرسمي باسم تلك العلاقات وحتى لم يكن من موضوعاته أي موضوع يند عن هذه العلاقات المتقلبة وإذا كان كثير من المبدعين العرب قد انزلق في العلاقات الجنسية وهو انزلاق أدان الكثير منهم، ولقد اختلفت مستويات هذا الانزلاق، وكان رائد ذلك كله الروائي المصري (إحسان عبدالقدوس) الذي كشفت عن خبايا قصصه ورواياته الناقدة (سهيلة زين العابدين حماد) وأدت دراستها إلى اكتشاف تلاطم المذاهب والتيارات الحديثة في قصصه التي جمعت بين العلمانية والعقلانية والواقعية الاشتراكية والبهائية والإسماعيلية والنصيرية والفرويدية والوجودية السارترية ولست أدري عن مدى تجلي هذه المذاهب، ولقد عَدَّت مثلَ هذا الجنوح الأخلاقي مؤامرة على المرأة المسلمة. وسهيلة في دراستها تطبق منهج النقد الإسلامي.
والجفري الذي اتكأ على علاقات الرجل بالمرأة لم تدركه حرفة الشبقين ومن ثم تفادي الانزلاق في مهاوي الرذيلة، وإن أوغل في الكتابة عن الحب ولكنه إيغال روعيت فيه اعتبارات كثيرة، لم تظفر بكل الرضا ولكنها تفادت كل السخط، ويظل الجفري في تعاطيه مع تلك العلاقات مجالاً للاختلاف المعتبر.
ومن أوائل الدارسين له الناقد (شاكر النابلسي) فمنذ أربعة عقود أنجز دراسة تحليلية موسعة في تضاريس قصصه القصيرة وحاول أن يحدد موقفه من المرأة، وهو إذ يتخذها مجالاً لإبداعاته فإنه تفادى استخدام الجنس للإثارة، وإن أوغل في اللقاءات غير المشروعة وغير القائمة في مجتمع محافظ كالمملكة.
يتبع