Al Jazirah NewsPaper Tuesday  25/11/2008 G Issue 13207
الثلاثاء 27 ذو القعدة 1429   العدد  13207
سُم دائم
نورمان مانيا

في العام القادم تحل الذكرى السنوية العشرين لانهيار الشيوعية في أوروبا. ويبدو أن شباب أوروبا الشرقية من جيل ما بعد الشيوعية، بفعل تحررهم من التعقيدات المصاحبة للتعرف أكثر مما ينبغي على الماضي الأليم، لا يبدون اهتماماً كبيراً بما تحمله أو عاناه آباؤهم وأجدادهم. ورغم ذلك فلم يكن الكشف عن التواطؤ المزعوم للكاتب التشيكي ميلان كونديرا في مواجهة الستالينية مؤخراً إلا بمثابة حدث أخير من ماضٍ ملوث طويل. وتتبادر إلى الذهن أمثلة أخرى: مثل الاتهامات التي أثيرت ضد ليخ فاونسا بالتعاون مع الشرطة السرية، والمجادلات العامة التي أحاطت بالماضي الفاشي لميرسيا إليادي في رومانيا، والهجمات التي شُنَت على ما أطلق عليه (احتكار اليهود للمعاناة) والتي تساوي بين المحرقة النازية ومعسكرات العمل السوفييتية.

كان فريدريك نيتشه يقول (إذا نظرت في عيني الشيطان لفترة أطول مما ينبغي فأنت تعرض نفسك لخطر التحول إلى شيطان). وكان بعض البلاشفة من أعداء الشيوعية، والذين كانت ميولهم أشبه بالدوغماتية الشيوعية ذاتها، يحرضون على أعمال الشغب من حين إلى آخر في أوروبا الشرقية.

وفي دولة بعد أخرى، كانت هذه العقلية المانوية، بكل ما تحمله من المبالغة في التبسيط والتلاعب، مجرد نسخة مجددة لخدمة أهل السلطة الجدد. وكان للانتهازية نصيبها في كل هذا بطبيعة الحال. في العام 1945، حين احتل الجيش الأحمر رومانيا، لم يكن عدد أعضاء الحزب الشيوعي يتجاوز الألف؛ وفي العام 1989 كان عدد الأعضاء قد اقترب من الأربعة ملايين.

وذات يوم بعد إعدام نيكولاي تشاوشيسكو تحول أغلب أولئك الناس فجأة إلى مجموعة من أشرس مناهضي الشيوعية وضحايا للنظام الذي خدموه لعقود من الزمان.

ومن الممكن أيضاً أن نستكشف بقايا الفكر الشمولي في العداء الموجه الآن نحو المنشقين السابقين من أمثال آدم ميتشنيك وفاتسلاف هافل، واللذين أكدا أن الديمقراطيات الجديدة لا ينبغي لها أن تستغل مشاعر الاستياء والغضب أو أن تسعى إلى الانتقام، كما فعلت الدولة الشمولية، بل يتعين عليها بدلاً من ذلك أن تعمل على بناء إجماع وطني جديد على صياغة وتمكين المجتمع المدني الحقيقي.

ولابد أن جنرالات الشرطة السرية السابقين وأعضاء الحكومة السرية الشيوعية، الذين ينعمون بالحصانة في قصورهم الفخمة، يجدون متعة عظيمة في مشاهدة عمليات (صيد السحرة) الجارية اليوم والتلاعب بالملفات القديمة لتحقيق أغراض سياسية مباشرة. بيد أن قضية كونديرا تبدو مختلفة - رغم أنها ليست أقل إثارة للانزعاج والقلق.

في العام 1950 كان كونديرا طبقاً للرواة، وهو شاب في العشرين آنذاك، قد أبلغ الشرطة الجنائية عن جاسوس غربي مزعوم - وهو الرجل الذي لم يلتق به قط، فهو أحد أصدقاء رفيقة أحد أصدقائه. وفي وقت لاحق اعتُقِل الرجل ثم أخضِع لعملية استجواب وحشية في منشأة تعذيب سابقة كان يستخدمها الجستابو، وأمضى أربعة عشر عاماً في السجن. وكان اسم كونديرا قد ورد في تقرير ضابط التحقيق، وهو التقرير الذي تم التثبت من صحته بعد أن عثر عليه أحد المؤرخين المحترمين بين ملفات قديمة مهملة في براغ. وكان كونديرا الذي اعتزل الناس، والذي هاجر إلى باريس في العام 1975، قد أعلن أن ذلك (لم يحدث قط).

فضلاً عن ذلك فإن الشرطة التشيكوسلوفاكية السرية المخيفة، والتي كانت لها كل مصلحة في إخراس أو تشويه سمعة الكاتب المنشق الشهير، لم تستخدم قط تلك الحادثة المزعومة لابتزازه أو فضحه.

وإلى أن يصبح في متناول أيدينا المزيد من المعلومات، سواء من جانب كونديرا أو من جانب السلطات، فلن نتمكن من حل هذه القضية على نحو قاطع لا يداخله شك. ولكن إن كانت تلك الحادثة قد وقعت فإن القضية تستدعي قدراً أعمق من التأمل والتفكير.

ومبلغ علمنا أن كونديرا لم يعمل كمخبر أو واشٍ قط، سواء قبل أو بعد تلك الحادثة، ولا يجوز لنا أن نتجاهل أنه تمكن في وقت لاحق من تحرير نفسه من السعادة الشمولية الإلزامية التي كانت الدعاية الشيوعية تبشر بها.

والحقيقة أن قضيته تخدم أيضاً كوسيلة لتذكيرنا بأن السنوات الأولى من فترة الخمسينيات كانت هي الفترة الأكثر وحشية من عصر (دكتاتورية البروليتاريا) في أوروبا الشرقية - وهي فترة الحماس العظيم والخوف الرهيب التي سممت عقول وأرواح المؤمنين المخلصين، والمعارضين الأقوياء، والمتفرجين غير المبالين على السواء. فضلاً عن ذلك فإن قضية كونديرا ليست بالقضية الفريدة من نوعها. في العام 2006 كشف المؤلف الألماني غونتر غراس الحائز على جائزة نوبل عن أنه قبل ستين عاماً، حين كان مراهقاً، كان عضواً في القوات النازية المتطوعة Waffen-SS ))وعلى نحو مماثل، أصيب العالم بصدمة حين عَلِم أن الكاتب الإيطالي الشهير إغناتسيو سيلون كان في شبابه يتعاون مع الشرطة الفاشية.

إن الحياة اليومية في ظل الحكم الشمولي، سواء كان شيوعياً أو فاشياً، كانت تعتمد بصورة روتينية على نوع من الازدواجية العميقة التي ظلت آثارها باقية لأمد طويل.

الحقيقة أنني لا أتفق مع هؤلاء الذين يقولون إننا لا ينبغي لنا أن نهتم بالفترات المظلمة من حياة كاتب عظيم. بل يتعين علينا ألا يكون اهتمامنا هذا لتحقيق أغراض تتعلق بإدانة شخص ما أو تبرئته، ولكن من أجل اكتساب فهم أكثر عمقاً لليوتوبيا الدموية الغوغائية الاستبدادية - ومواطن الضعف في النفس البشرية. بل وربما كان بوسعنا أيضاً أن نعتبر ذلك شهادة لقدرة الفنان على التغلب على أخطاء الماضي وإنتاج أعمال أدبية ثمينة على الرغم من تلك الأخطاء.

ولكن هل يمكننا على نحو مبَرَر أن ندافع عن الفنانين والمفكرين المطعون فيهم أخلاقياً على أساس جدارة أعمالهم؟ من بين الأمثلة الصارخة على ذلك، تلك الطريقة المفضوحة التي دافع بها أتباع الفيلسوف الروماني قسطنطين نويكا عن دعمه للحرس الحديدي الفاشي ثم تعاونه في وقت لاحق مع الشيوعيين، بينما لا يتورعون في الوقت نفسه عن إدانة عاملة تنظيف لأنها كانت تمسح أرضية مكاتب الشرطة السرية.

ألا ينبغي لنا أن نضع في الحسبان كدح امرأة كهذه من أجل إقامة أود أسرتها وأطفالها؟ إن الحياة في ظل الحكم الشمولي كانت تشكل موقفاً يتسم بالصعوبة والتعقيد إلى الحد الذي لابد وأن يفرض علينا الاستعانة بقواعد خاصة في التعامل مع أسرى محنة كهذه.

ولكي نفهم تلك الحقبة فيتعين علينا أن نتعرف أولاً على الظروف الغامضة المحيرة التي أحاطت بها، وأن نتروى في الحكم عليها، وألا نبالغ في تبسيط واقع يومي متعدد الجوانب سعياً إلى تحقيق أهداف سياسية حالية.

أو على أقل تقدير، علينا قبل أن نتسامح ونغفر أن نتعرف جيداً على ما ينبغي علينا أن نتسامح معه. في أوروبا الشرقية اليوم، يستطيع الشباب وكبار السن على السواء أن يستفيدوا من ذلك الدرس.

لقد تاه موسى وأهله في الصحراء أربعين عاماً قبل أن يتمكنوا من تخليص أنفسهم من العقلية العبودية السامة.

أحدث مؤلفات نورمان مانيا كتاب بعنوان (عودة السفاحين). وهو حائز على جائزة Medicis Etranger في العام 2006م.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت/معهد العلوم الإنسانية، 2008م.
خاص بالجزيرة



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد