Al Jazirah NewsPaper Tuesday  02/12/2008 G Issue 13214
الثلاثاء 04 ذو الحجة 1429   العدد  13214
بعد نهاية التاريخ.. هل نعود للعصور الحجرية؟
د. عبدالله بن ثاني

المؤلم أن عالمنا العربي مثقل بهمومه ومصائبه وقضاياه التي لم تأتِ فرادى على إنسانه وكائناته الأخرى، وإنما جاءت تباعاً ودفعة واحدة، ولم يزل يعيش المصيبة الأولى وصدماتها التي فَقَد على إثرها التوازن في حالة تثبت أن الإنسان في هذا الشرق الأدرد يتعرض لسرقة مفاهيم وقيم ومواقف قبل أي شيء آخر..

.. ويتعرض شرقه لسطو أحيائه وأمواته على يد لصوصية استباحت الخزائن والمقابر واليابسة والمحيطات على السواء، وليس لديه القدرة على أن يصرخ بما صرخ به يوليوس قيصر معاتباً صديقه اللدود بروتوس؛ فالإنسان هو الإنسان، لا تختلف آدميته في الإنجليزية أو الفرنسية عن الألمانية أو الإيطالية أو العربية، وهناك محصلة نهائية يشترك فيها الجميع، لا تعترف باختلاف الألسنة، وتخترق كل المعاجم، والموجع أننا نختلف وأريد لنا هذا التخلف المدروس بعناية في زمن غير موضوعي لشرفنا الغارق حتى النخاع بمستنقع يؤكد تجربة عالم النفس التربوي الذي جعل الحمامة تسير بخطوة للأمام ثم ترجع خطوتين للوراء. ورغم هذا التقدم العلمي والتكنولوجي الذي وصلنا من خلاله إلى نهاية التاريخ إلا أنه اقترن بتقهقر إنساني مخيف وأخلاقي مروع حين اختلت كل معادلات التعايش وأصبحت لقمة كل فرد منزوعة بقسوة من فم الآخر، ولا أدل على ذلك من عودة ظاهرة القراصنة وصورتهم النمطية في الأذهان المملوءة بالأساطير وحكايات الجدات ليقف المجتمع الدولي على حجم الكارثة الأمنية بعد تصريح الناطق باسم الأسطول الأمريكي الخامس الملازم ناثان كريستنسن تعليقاً على خطف مزيد من السفن وناقلات النفط في بحر العرب وسائر أنحاء المحيط الهندي:

إننا نقوم بدوريات في منطقة مساحتها 6.5 مليون كيلو متر مربع، وهي منطقة شاسعة جداً لأنها تمتد من باكستان إلى كينيا، وليس في وسعنا أن نكون في كل مكان في وقت واحد. وهذا العجز عن مكافحة إرهاب البحار يؤكد أن القراصنة يعودون بعد نظريات نهاية التاريخ الحضاري وحلقاته المفرغة التي لا يدري أين طرفاها بطريقة مختلفة وكأننا في الربع الأخير من القرن السادس عشر الميلادي ليتأكد للعالم أن هذه الفوضى الخلاقة تعود بالإنسان من قمة الحضارة إلى العصر الحجري والهياكل العظمية لتكون غايته أن يستر عورته بأوراق الشجر في زمن ملون تحولت أيامه إلى إبريل وكذباته الأشبه بعجوز تطهو الحجارة لصغارها في ليلة تجاوز فيها القبض فاطمة إلى خطف الإنسانية جمعاء.. أزمات مالية بلا أسباب وقراصنة سود لا يحملون مبادئ، بيض النواخذة وفروسيتهم، يرفعون أعلاماً سوداء تطرزها جمجمة على عظمين متعاكسين إمعاناً بإثارة الرعب في نفوس الضحايا. والمختلف أن القرصنة في نهاية التاريخ شملت البر والبحر والمحيطات والأجهزة وسيادات الدول وعادات الشعوب واستباحت كل ما كان مقدساً في حياة هذا الإنسان الذي تحول إلى هيكل عظمي بامتياز، لتسقط كل سلامى منه شرف التاريخ والقانون، وهما العَلَمان الشريفان عند كثير من الأمم؛ لأن التاريخ أصبح مزوراً والقانون مخترقاً.. أسئلة حائرة وأجوبة غامضة: ماذا يريد القراصنة؟ وعم يبحثون؟ وهل القرصنة مفتعلة بدعم من بعض الأطراف في المنطقة سعياً إلى أن يكون دورها أكبر في الحفاظ على الأمن الإقليمي؟ وهل انتشار هذه الظاهرة يعطي الأساطيل العسكرية ذريعة لخطط دولية للسيطرة على حركة الملاحة وتدويلها وبالتالي حرمان دول المنطقة من سيادتها على شواطئها، وبخاصة أن القرصنة كانت ذريعة في يوم من الأيام لاجتياح شواطئ اليمن، وذلك أن سفينة هندية تدعى (دوريا دولت) تابعة لإمبراطورية الهند البريطانية كانت سبباً للاحتلال حينما تعرضت للقرصنة مقابل الشاطئ اليمني وشكلت ذريعة للاحتلال البريطاني لمدينة عدن عام 1831 ولجنوب اليمن من بعد، استمر حتى العام 1967م.

على الرغم من الحضور المكثف للأسطول الأمريكي الخامس في المياه الدولية وتمركز قاعدة بحرية استراتيجية فرنسية أمريكية مشتركة في جيبوتي المطلة على باب المندب فضلاً عن الأساطيل الروسية والأوروبية التي تبحر في المياه الدولية بداعي مكافحة الإرهاب وحماية السفن التجارية وناقلات النفط، فإن القراصنة أثرياء يزاولون أنشطتهم من دون تهديد يذكر في صورة تثبت أن الإرهاب ظاهرة عالمية تجاوزت اليابسة، وقد وصفها الأمير سعود الفيصل في قوله: (إن القرصنة مثل الإرهاب)، ما دام ضحاياها طاقم السفن المهددين بالإغراق والنسف للحصول على فدية وغنائم تقف أمام مشروعات إنقاذ الناس المعوزين بخطف ما تحمله من معونات غذائية وصحية. مرة أخرى يعطي الإرهاب الآخرين مسوغات فرض مزيد من السيطرة والوصاية علينا بحجة مكافحته؛ ولذلك يناقش مجلس الأمن الدولي قريباً مشروع قرار فرنسي من أجل التوصل إلى ميثاق دولي لتأمين الملاحة البحرية، ومواجهة ظواهر القرصنة ومهاجمة السفن، التي استشرت على نطاق واسع في العقد الأخير، وعلى سبيل المثال طالت عمليات الخطف خلال السنوات العشر الأخيرة أكثر من 3200 شخص، كما أن رقعتها الجغرافية اتسعت وامتدت من دلتا النيجر وخليج غينيا ووصلت حتى سنغافورة وماليزيا مروراً بالساحل الصومالي، ومن أبرز بنودها: أولاً: تعزيز قوة التدخل الدولية ضد أعمال الخطف والقرصنة البحرية. ثانياً: السماح بملاحقة مرتكبي عمليات الخطف والقرصنة داخل المياه الإقليمية، والقيام بعمليات دورية عسكرية تصل حتى المياه الإقليمية للدول غير القادرة على تأمين مجالها المائي مثلما هو حال الصومال. ثالثاً: تعزيز القدرات الأمنية للدول المستهدفة بالقرصنة وإنشاء خفر سواحل يمني؛ كون هذا البلد يقع في منطقة حساسة جداً على صعيد الملاحة البحرية الدولية، وأهمية خليج عدن وممر باب المندب في هذا المجال.

والمشهد المدهش أن القراصنة الصوماليين يملكون أجهزة متطورة لا تتفق مع بدائيتهم وتخلفهم، ترصد السفن وتتابعها على بُعد آلاف الأميال، وهم لا يدركون أننا متضررون معهم من خطورة القرصنة ودورهم المشبوه؛ لأن ثلث سكان بلادهم يعيشون تحت ظل شبح المجاعة، والبحر وحده طريق نجاتهم ليتم إمدادهم بالغذاء، والإمدادات الطبية وغير ذلك من مساعدات الإغاثة. لقد وقف العالم الحر أمام أبعاد هذه الظاهرة وأدرك خطورتها بعد خطف ناقلة النفط السعودية العملاقة (سيريوس ستار) التي تمت قرصنتها في عرض البحر الهندي، وتضاربت الأنباء والتقديرات حول توقيت وتاريخ اختطافها، لكنها اعتبرت الفريسة الأكبر منذ بدء عمليات القرصنة الصومالية التي صاحبت انهيار الدولة الصومالية عام 1991م وتفجر معارك الحروب الأهلية المتتالية على إثر سقوط نظام الجنرال محمد سياد بري، في حين عدّها مراقبون آخرون أنها الفريسة الضحية الأكبر في عمليات القرصنة على امتداد التاريخ المعاصر، ويقدر ثمن الناقلة الضحية الضخمة بـ 150 مليون دولار، وتحمل شحنتها نحو مليوني برميل نفط، وهو ما يعادل 35% من الإنتاج السعودي اليومي، وتصل قيمة هذه الحمولة بالأسعار الحالية إلى 100 مليون دولار.

أيها السادة: عاد القراصنة من دهاليز التاريخ بعد عقود في صورة يخشى أن يعود معها كل ما تحررت منه البشرية المتمدنة. والله من وراء القصد.



abnthani@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد