الحياة مترادفات وأضداد ونسب ومقاييس وأشياء ملونة وأخرى غير ملونة ومعايير متشابهة وأخرى غير متشابهة وعلاقات اجتماعية تسود وأخرى لا تسود. والحياة مليئة بالمتناقضات؛ ففيها الخير وفيها الشر، وفيها الغنى وفيها الفقر، وفيها الرفاهية وفيها الحرمان..
.. وفيها التعب وفيها الراحة، وفيها السعادة وفيها الشقاء، وفيها المحبة وفيها الأحقاد.. فكل هذه المتناقضات متنافرة ومتباعدة تعبر عن حالات متضادة لا تلتقي. والحياة التي نعيش فيها لها مقاييس ونسب متشابهة، وناسها الذين يمشون على أديمها لا يقلون اختلافاً وتضاداً؛ فالحياة والموت والعطش والظمأ والشبع والجوع والنقاء والتلوث كلها مفاهيم طبيعية تشير إلى حالات حياتية واقعية موجودة ومحسوسة في كل زاوية من زوايا الكون العامر الفسيح، وهذه المفاهيم مثلما هي مرتبطة بالإنسان فهي كذلك مرتبطة بالنبات وبالحيوان بشكل كبير ومباشر، ومثلما الإنسان مهتم بهذه المفاهيم، وهذه المفاهيم متعلقة به ويحاول قدر المستطاع تحقيق الجوانب الإيجابية من كل تلك المتناقضات والمقاييس، بمعنى آخر يحاول الإنسان دوماً تغليب جانب الغنى والراحة والرفاهية والخير والمحبة، إلا أن تيارات الحياة اليومية وشذوذ ظروفها تجبره أحيانا على ركوب تيارات سلبية تدميرية غير نهضوية، إلا أنه من الجدير بالإنسان في هذا القرن الحضاري الجديد أن يهتم بدفع الواقع الحياتي إلى أطرافه الإيجابية، وأن يكون اهتمامه بالحياة موازياً لاهتمامه بتطوير واقعه الاجتماعي والإنساني والبيئي والإقليمي والعالمي والسياسي، ولعل أهم ما يلفت النظر إليه في هذا السياق أن اهتمام الإنسان بالواقع المعاصر بشتى مناحيه وأهدافه وتطلعاته يتلخص بوجوب أن يوفر الإنسان لنفسه بيئة حياتية صالحة ونقية وخالية من الشوائب والأكدار، وذلك لا يأتي إلا بتوفير مساحة شاسعة من السلام الشامل مع النفس أولاً ومع الآخرين المحيطين به والبعيدين عنه ثانياً، وعدم الانقطاع والانعزال والتفرد والقوقعة الذاتية وحشر النفس في مكعب ضيق وخانة صغيرة غير صالحة للركض وليس فيها متنفس للهواء أو مشاهده للحياة؛ فالمشاركة الاجتماعية وفق سلسلة حلقات متنوعة ومختلفة وأبجدية مرسومة تبدأ بالإنسان وتنتهي به، تعني مزيداً من الحياة الاجتماعية الراقية ومزيداً من البُعد الإنساني والتواصل الحميم. إن الديدان والطيور والأسماك والحيوانات لها تعايش خاص ونمط علاقات خاص ولغة خاصة ومشاعر خاصة وأحاسيس خاصة وفرح خاص وحزن خاص وتعابير جسديه خاصة، ولا يمكن أن تعيش وحيدة ومنفردة إلا في حالات إجبارية غصباً وعنوة، وما عدا ذلك فالعيش المشترك لغة تفاهم بين هذه الكائنات الحية، وإن لم نعِ كيفية تخاطبها وتفاهمها بينها البين، وعلى هذا فالإنسان ذو العقل والبصيرة أولى بل يجب عليه إحياء التواصل الاجتماعي الإنساني في المحيط القريب وفي المحيط البعيد وفق مزايا وخصائص يعي ماهيتها وكيفيتها ويدركها. إن الإنسان جُبِل على تحدي الظروف المناخية والتضاريس البيئية ويحاول دوماً بلا عجز قهر الحرارة والرطوبة والجفاف والعواصف الترابية والجبال والسهول والأودية والأمطار والفيضانات والزلازل والمحن.. وهي منغصات للإنسان ومكدرات له، لكن الإنسان بما فضله الله على سائر المخلوقات وكرمه يمكن أن يغير هذه الظروف المناخية وتضاريس البيئة والكوارث والمصائب أو يحسنها ويتحكم فيها ولو بمقدار، والإنسان دائماً يلعب الدور الأساسي في أحداث هذه التغيرات سلباً أو إيجاباً زيادة أو نقص. إن ما أردت أن أتوصل إليه في إيراد هذه الأمثلة هو بما أن الإنسان بمقدوره فعل كل هذه المعجزات إن أراد أو رغب، فالأولى به وجوب وفرضية تحسين حياته وفق نظم جمالية راقية بعيداً عن الشحن النفسي المليء بالحقد والحسد والكره والبغض والقتل والدمار وسفك الدماء وإزهاق الأرواح والظلم والجبروت والطغيان وقطع الأرحام وزرع الفتنة والسرقة والنهب وممارسة أبشع أنواع الإيذاء اللفظي والنميمة، بل الإنسان بحاجة إلى الاهتمام بالأهداف النبيلة وتضافر جهوده ووضعها في إطار جو إنساني يتجاوز الأهداف الآنية إلى ما هو أوسع وأشمل وأعم، وبذلك يكون الإنسان كفيلاً بإحداث طفرة علاقات إنسانية جميلة. إن ما أدعو إليه ليس عقيماً أو مستحيلاً، ولا هو من باب التعجيز، بل دعوة من واقع أن الإنسان يجب أن يعيش الحياة وفق نسق عائلي واجتماعي راقٍ وفهم شامل لأصل الحياة، وأن يفهم الإنسان أن الحياة مهما طالت فهي قصيرة ومصيرها إلى الفناء والزوال ثم حياة برزخ الله وحده أعلم بمقدارها ومداها، ثم نفخ بالصور وبعث من جديد ثم جزاء وحساب ثم إلى الجنة أو النار، وقتها لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وعليه ووفق هذه المعطيات أعلاه يجب على الإنسان إدراك حقيقة الحياة ووجوب عيشها بشفافية مطلقة ورضا نفس وراحة بال ومحبة بعيداً عن منطق الأنانية والتفرد والسوداوية والقوقعة في شرنقة عنكبوتية رقيقة غير قابلة للاستمرار.
ranazi@umc.com.sa