حين نتناول الإبداع أو نتطارح حوله في فضاءاتنا العلمية والثقافية والاجتماعية، فإن قدراً من الغموض يلف موضوع الإبداع، وقد نشعر في بعض الأحيان بشيء من التشوش الذهني الذي قد يصدّع رؤوسنا، فنحن نتوهم بأننا نحكم السيطرة على مجريات تحليل الظاهرة الإبداعية ونخضعها لبعض أدواتنا التشخيصية والتحليلية والتقويمية.. ولكننا فجأة نقف ونعجز عن دفع متاريس أذهاننا، وربما يمرر الواحد منا يده على رأسه أو يضغط بها على جبهته في حركة لا إرادية.. ربما كنوع من الاستحلاب الذهني!
الأدبيات العلمية للإبداع تجعلنا قادرين على التعرف على مصدر ذلك التشوش وأسبابه، فقد تعلمنا من العديد من الدراسات أن الإبداع ظاهرة معقدة وأنه متعدد الجوانب، كما تفيدنا الممارسات العملية والملاحظات التراكمية حول تعاطينا مع الظاهرة الإبداعية أننا قد نميل إلى التركيز على جانب دون آخر أو أننا قد لا نتفق أصلاً حول الجانب الذي نتحدث حوله أو نفكر به، وهنا ندرك أن ذلك اللون من المعالجة هو الذي يتسبب في حدوث مثل ذلك التشوش..
فمثلاً حين نتحاور حول الإبداع الأدبي (شعر - رواية - مسرحية...)، فقد نتحدث بشكل فضفاض حول ظاهرة الإبداع الأدبي، ونتنقل بين جوانبها المختلفة من دون أن نتبين تضاريسها أو نحمل التأشيرات المطلوبة للعبور والاجتياز.. فتارة نتحدث عن الأديب المبدع ثم ننتقل إلى النص الأدبي، وبين هذا وذاك نشير إلى بعض الاعتبارات الثقافية والاجتماعية، وقد نعاود الحديث مرة أخرى وبشكل غير منظم عن المبدع أو النص ونذكر بعض الخصائص والسمات، وهكذا في عملية تحليلية غير منضبطة بخارطة محددة، مما يجعلنا نتوه في حديثنا حول الظاهرة الإبداعية وقد نشعر بضرورة الكف عن مواصلة التحليل، خاصة إذا أدركنا تواضع الحصيلة التي خرجنا بها! ويحدث قريب من ذلك حين نتناقش حول الظاهرة الإبداعية في العلوم والهندسة أو التقنيات الحديثة والاختراعات والابتكارات وما إلى ذلك.
الدراسة المنهجية للظاهرة الإبداعية أوصلتنا إلى حل ميسر لمعضلة التحليل والتشخيص والتقييم للإبداع، فقد اقترح أحد الباحثين (رودز Rhodes, 1961 )أن نقوم بمعالجة الظاهرة الإبداعية من خلال ما يسمى ب(المدخل الرباعي) 4 Pصs Approach ويشتمل هذا المدخل على أربعة مداخل فرعية للإبداع هي: (1) الشخص المبدع، (2) العملية الإبداعية، (3) الناتج الإبداعي، (4) الثقافة وتأثيرات البيئة على الإبداع.
ويتميز هذا المدخل بالشمول والتكامل في نظرته للظاهرة الإبداعية بكل أبعادها وتجلياتها وبواعثها، وقد شدد بعض الباحثين بأن لا يكون ذلك المدخل للتعريف بالإبداع فقط، بل ولدراسة الإبداع وفهمه أيضاً.
ولو عدنا إلى ذات المثال الذي سقناه آنفاً، لأمكننا القول بأن المدخل الرباعي سيجعلنا قادرين على المعالجة المنهجية المنظمة للظاهرة الإبداعية في الأدب، فحين نتحاور حول الإبداع الأدبي فإنه يجب علينا أن نحدد الجانب الذي نركز حديثنا أو تحليلنا حوله، فهل نحن نتحدث عن شخصية الأديب المبدع؟ أم نحن نتناول العملية الذهنية التي أوصلته إلى إبداعه الأدبي؟ أم نحن نحلل الناتج الإبداعي (النص الأدبي)؟ أم أننا نتطرق إلى العوامل المشجعة والمعيقة للإبداع الأدبي في مجتمع ما وثقافة ما؟
في الحقيقة أننا بحاجة ماسة إلى تناول تلك الجوانب الأربعة حين نعالج الظاهرة الإبداعية في أي مجال كان، ولكن التحليل أو الدراسة التي نقوم بها قد تجعلنا نكثف اهتمامنا على جانب محدد، لأسباب يجب أن تكون واضحة ومقنعة منهجياً، مع عدم إغفال الجوانب الأخرى، وهذا ما سوف نتطرق إليه في مقالات قادمة ومن زوايا متعددة.
beraidi2@yahoo.com