والفكر العربي متوازن في الجمع بين معطيات الدنيا، وواجبات الآخرة، قال تعالى : {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (77) سورة القصص، فلا تعارض بين متطلبات الدنيا وإعمارها، وتغذية الجسد وتقويته بما يحفظ للإنسان كيانه ونسله، وبين تقوية صلة الروح بخالقها تعبداً وطاعةً، فقد تم التوفيق بين المجالين على الرغم من الاختلاف بينهما، فلا شطط ولا مبالغة ولا إسراف ولا تحيّز لأي جانب على حساب الآخر، فالإنسان بشر، لا يرقى إلى مصاف الملائكة، لكنه في الوقت نفسه لا ينحدر إلى مصاف البهائم، فهو مطالب بأن يسعى في الدنيا وكأنه يحيا فيها حياة أبدية، ومطالب في الوقت نفسه أن يسعى للآخرة وكأنه يموت غداً، إنها معادلة صعبة لكنها تحققت وبدرجة عالية من التوافق والتوازن في ثقافة المسلم وحياته.
والفكر العربي يؤمن بتوازن القوى، بحيث لا تطغى أمة بقوتها، وتتسلّط بعتادها، وتستأثر بخيرات غيرها وخياراتهم، لأن مدافعة هذا بذاك يحقق العدالة وإعمار الأرض قال الله تعالى: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (251) سورة البقرة.
والفكر العربي يؤمن بالاختلاف بين الناس، قال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } (118) سورة هود، ويؤمن بأن التقوى هي معيار المفاضلة بين الناس، وهي معيار الكفاءة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (13) سورة الحجرات. ففي الاختلاف بين الناس رحمة، وفيه تيسير عليهم وتسهيل، وفيه تسيير للحياة وإعمار للكون.
وعلى الرغم من وضوح معالم المصادر التي تكون الفكر العربي، المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومن القيم المجتمعية الحضارية للعرب، والتي تعد منارات هدى وهداية لكل خير، بما تمثّله من عدالة ووسطية وتسامح، إلا أن الفكر العربي يعاني الآن من أزمة مزمنة، تجلّت في العوق الفكري الذي يخيّم عليه، والمتمثّل في تخلفه عن الريادة والمزاحمة على الصدارة، بسبب انغلاقه وانكفائه على ذاته، وتسلّط المصادر الأحادية للتلقي والتكوين، وتغلب العواطف وما صاحبها من انفعال وتكبر وتعال ومكابرة.
إن مؤسسة الفكر العربي بما تتملّكه من قيادة محنكة، ومنهج أصيل منفتح، لقادرة على إعادة الفكر العربي إلى سابق عهده الزاهر بإذن الله.