أحيانا يظهر للوهلة الأولى أن ثمة تعارض بين الأدلة الشرعية غير أنه عند التأمل نجد أن الجمع بين هذه الأدلة متاح بشكل واسع وليس بينها تعارض، وعدم الجمع بينها يعود على أصلها بالإبطال، فالمقتضى التام إذا تعين لزم وجود مقتضاه، بيد.
أن مباشرة الجمع التنسيقي بين تلك الأدلة التي يُظن تعارضها، يتعذر دونما بعد معرفي يمنطق هذا الجمع ويعلي من درجة تمنعه ضد تسلل نعت التناقض إليه؛ الجمع بين الأدلة التي يبدو من ظاهرها التعارض، ليس بالمكنة جريانه في سياق ثقافي متخم بالقُشرية إبان تعاطيه مع النصوص، الجمع هنا لا ينقاد بطواعية لتلك المعاينة العفوية السطحية المتخلقة جراء متتاليات الكسل العقلي كما هو الحال لدى ذلك الحراك التكفيري الذي يكتفي بمعاينة المتجلي النصي مجردا عن امتداداته الماورائية، الشأن الذي بات جراءه فاقد اللوعي بأنواع التعارض بين الأدلة ومن ثم أعياه الجمع التوفيقي بينها، فهو لا يدرك أن ثمة تعارض يقع بحسب (العموم والخصوص)، وأن ثمة تعارض بين (عامين) وتعارض بين (خاصين) وإن أدرك هذا التعارض ذات صحوة مّا فإنه لا يعي كيفية الجمع بينهما ويخفى عليه أنه لابد أن يثبت الحكم في عدة موارد، ويوزع الدليلان عليها وذلك بحمل كل منهما على بعض تلك الموارد. آلية الجمع هنا مؤجلة في العقل التكفيري نظر السطحية حراكه القرائي في مجالات الشريعة، وأصول التشريع ، ولذا يغيب عنه الوعي بكيفية الجمع بين الأدلة التي قد يبدو وفق النظرة الأولية وجود تعارض بينها، وغياب الوعي كحالة أولية بكيفية الجمع بين الأدلة هو إفراز حتمي لغياب الوعي بنوعية التعارض وعدم الإدراك التفصيلي لماهيته، القراءة التكفيرية لانخفاض مستوى التمعن التحليلي لا تدرك أن التعارض قد يقع بين دليل (عام) ودليل (خاص) مطلق وأنه هنا يجب - كما يؤكد العلماء وأصحاب الاختصاص - بناء (العام) على (الخاص) ويكون المراد من (العام) ما لم يتناوله لفظ (الخاص) سواء كان (الخاص) متقدما على (العام) أو متراخيا عنه أو مقارنا له أو جهل التأريخ. هذه القراءات الممعنة في تصعيديتها يعزب عنها- كما يتجلى في متباين تناولاتها- أن الأدلة قد تتعارض بحسب (الإطلاق والتقييد) وأن الدليل إذا ورد (مطلقا) بأن أفاد ثبوت الحكم لمطلق الماهية من غير نظر إلى أي (قيد) فإنه يجب العمل به على (إطلاقه) ولكن متى ورد الدليل (المقيد) في نفس الحكم وجب جعله مبينا لذلك الحكم. أيضا، ومما نلمسه بعمق في خطاب التكفير أنه يجهل - وقد يتجاهل في بعض السياقات - أن ثمة تعارض قد يقع أحيانا بحسب (اختلاف الحال) وأن الجمع هنا ممكن وذلك عن طريق إسقاط كل دليل على واقع مباين لذلك الواقع الذي دل عليه الدليل الآخر، كثير من حالات التعارض التي يزعمونها هي عند التمعن من هذا الباب. كثيرا ما يخال الفاعل التكفيري - كما هو واضح من خلال مجمل الأداء الخطابي- أن ثمة تعارض قد أخذ امتداده المكاني بين دليلين ويجهل أن ذلك تعارض (باختلاف المحل) ولاحقيقة له في واقع الأمر وذلك عندما يتم تبيين تغاير محلهما فيكون كل دليل منزلا على محلٍ خاصٍ به. وقد يتوهم - نتيجة لمعاينة ظواهر الأدلة مجردة من علائقها - تموقع ضرب من حالات التعارض بين دليلين مع أنه عبر إعلاء درجة الدقة القرائية يتجلى أن هذا تعارض (باختلاف الحكم) ويتبين أن الجمع بينهم امتأتٍّ من خلال بيان مغايرة ما ثبت بأحد الدليلين لما انتفى بالآخر. لو تأملت بعمق في كل الأطروحات الإسلاموية التي تمتهن التكفير لألفيت أن التعارض الذي تدعيه لا يخرج عن تلك الصور التي جرت الإشارة إليها آنفا. الخطابات المتأسلمة لديها مهارة فائقة في صياغة المتناقضات وهي ليست متناقضات إلا من خلال تصورها الذهني المغلق، والتركيبة العقلية التي تعاني من قزامة ذهنية هي بطبيعتها تجعل من اللاتناقض تناقضا وذلك أثر طبيعي لعجزها المزمن عن إدراك عناصر التقاطع الإنسجامي بين الأدلة التي يُظن أنها متناقضة وهي بضد ذلك، إنها تناقضات وهمية تزول شبهة التناقض عنها عند أدنى سوية مقاربة معرفية تتغيا معانقة الحقيقة. دائما التشريعات البشرية تتضمن القصور البشري وتحتوي على جزئية النظر ومحدودية المعالجة والتأثر الوقتي بالملابسات الآنية وعدم معاينة المتناقضات التي تفضي إلى التنافر بين تكويناتها- إن عاجلا في المدى القريب أو لاحقا في اللاحق المنظور- ولاغرو فهذه طبيعة الإدراك البشري المحدود والذي يجهل ما خلف اللحظة الحاضرة فضلا عن جهله لما وراء جدار الزمن النائي، أما التشريعات الشرعية فهي لا تتناقض مدلولاتها ولا تتصادم حقائقها ولا تتضارب بنيتها المفاهيمية بل هي تسير في ركب واحد لتحقيق مغزى مشترك، التناسق هو الظاهرة الملحوظة في التشريع فهو وحدة متجانسة وتماهٍ متناسق وتقاطع متسق، ولا غرو فهو يحمل طابع الصبغة الربانية، ولا ريب أن دلالة الطرح الإلهي أكمل من دلالة كل طرح وإفادته اليقين تبزّ إفادة كل دليلٍ اليقين بمدلوله، وكل من زعم أن ثمة تناقضا لابد له من أصل يمنطق به زعمه، وأصل يبطل به الزعم الذي يتبناه مباينه في الرؤية؛ ذلك أن الأصل في نصوص الوحيين عدم التناقض والعدول عن ذلك الأصل مخرج للنصوص عن طبيعتها، وعليه فيلزم مجترح ذلك استدعاء دليل يسوغ له مسلكه وأن يجلي احتمال النصوص لذلك التناقض الذي تأوله.
في هذا الطرح التكفيري لا وجود للجمع بين الأدلة الشرعية فالجمع هنا تجري مصادرته بمصادرة كل تمظهراته ولكن لا تتم هذه المصادرة لصالح التقاطع الاتساقي بين الأدلة وإنما هي مصادرة إلغائية يتم عبرها ضرب الأدلة بعضها ببعض تحت مبررات تناقضها وعدم تناغمها في سياق واحد. خطاب التكفير لديه ضحالة في حمولته المعلوماتية المتصلة بكيفية الجمع بين النصوص التي يوهم ظاهرها عدم تآلفها وهذا ما يجعله يقع في فخ التعاطي الاختزالي الذي يحدوه في سياق إنتاج الدلالة أوفي معرض تجسيدها على الأرض إلى وأد طاقات نصية عالية الزخم المسوغ العقلي لوأدها- لدى هذه الخارطة الذهنية المتشبعة بمفردات الإلغاء- هو وجود حالات من التناقض بين دلالاتها الأمر الذي يحتم إلغاءها ونفيها خارج إطار النص. وهكذا يعتمد هذا الخطاب التبرير غير الواعي والنائي عن السياق الموضوعي ويخال أنه كاف لإسباغ الشرعية وإضفاء المشروعية على مقارباته المفتقرة في الأصل لعوامل تموضعها. يذكر الدكتور: (نعمان السامرائي) أن بعض التكفيريين قال له: (إني لأجد الحديث النبوي فأفرح به ثم بعد مدة أجد حديثا آخر لكني لا أعرف كيف أجمع بينهما وضرب مثلاً الأحاديث التي تدعوا إلى الخروج على الحاكم الظالم وإن قتل فهو شهيد أو سيد الشهداء وهناك أحاديث تمنع الخروج مطلقاً) انظر (التكفير، جذوره - أسبابه - مبرراته) وهذا القول يجلي مدى الإشكالية التي يقبع في أسرها من لا يملك الزاد العلمي الذي يرشحه لفقه النصوص ومواردها وآليات الجمع بينها. هذه الإشكالية كانت عاملاً حيوياً في انحراف الخوارج حيث أخذوا بعموم آيات الوعيد وقالوا: المعصية الواحدة كافية للخلود في النار ولابد من اجتماع الطاعات كلها للخلود في الجنة ويقف قبالهم المرجئة الذين أخذوا بعموم نصوص الوعد وقالوا: الإيمان هو التصديق ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة ولابد من اجتماع المعاصي كلها للحكم بالخلود في النار.
وهناك أحد زعماء التكفير وهو (شكري مصطفى) سلك مسلك الخوارج. حيث يقول معلقا على قوله سبحانه: (وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان): (إن جميع الثلاثة كفر من حيث الحكم العام مختلفين من حيث أسماء الأعلام) انظر رسالة (الحكم بغير ما انزل الله وأهل الغلو) (161) ويقول الزعيم التكفيري (ماهر بكري): (إن كلمة عاصي هي اسم من أسماء الكفار وتساوي كلمة كافر تماما ومرجع ذلك إلى قضية الأسماء، إنه ليس في دين الله أن يسمى المرء في آن واحد مسلماً وكافراً) انظر (الهجرة) (72) إن هؤلاء المنتمين إلى الحراك التكفيري الذي مني بفشل ذريع في تعاطيه مع الأدلة جمعوا بين محاذير كثيرة من أبرزها أربعة. الأول: ذلك البعد العقدي الذي تأصل في قرارة أخيلتهم وملك عليهم ما بين جوانحهم وانبعثوا في تعاطيهم مع النصوص بوحي منه، ذلك البعد الذي ينطق مؤداه بأن نصوص الوحيين فاقدين لعوامل انسجامهما وأن التنافر الدلالي هو سيد الموقف الحاكم للعلاقة بين المحتويات النصية الشأن الذي آل بهم إلى الثاني: وهو تعطيل الحقائق النصية انطلاقا من تلك الترجمة المشوهة وغير الأمينة لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وإقصاء الخط المقاصدي ومصادرة طاقات نصية رحبة جرى - بموجب دفعها لمبارحة وضعيتها الموضوعية - اختزال مأفون لمضامين الوحيين وتحسير عبثي لآفاقها المتناهية في بحبوحتها. الثالث: التقليل من قيمة المتكلم الكامل العلم الوافر البيان ونسبته إلى ضد البيان والإرشاد وأنه كلف البشر بأن يعقلوا مغزاه الكلمي بما لا يدل عليه بل بما يدل على نقيض مقصوده! وهذا اتهام له بأنه توخى التلبيس ورام الإلغاز والتدليس بل إن هذا القانون التأويلي ينطوي على جحد متناهٍ للرسالة بل هو يؤكد وإن لم يعترفوا بذلك بأن عدم إرسال الرسول أفضل من إرساله ولسان الحال ينطق هنا بأنهم أعمق منه معرفياً وأبين منه بلاغياً وأنهم يتربعون على قمة علمية عليا لا يدانيهم فيها سواهم. الرابع: انتهاكهم الفاضح لحرمة الدوال وتلاعبهم العبثي بالمدلولات، طمعاً في إشاعة معطيات فكرية ذات طابع إسلاموي واطّراح جملة من قواعد الإسلام وأصوله، إنهم يريدون إسلاماً بنسخة معدلة تتواءم مع الذهنيات المتأسلمة، النص هنا يستحيل إلى ألعوبة يمارسون فيها ألوانا من الاستعراضات الممزقة للبنية النصية والمحجّمة من سلطان النص.