قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} سورة يونس (57 -58) .
وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} (82) سورة الإسراء.
وقال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (44) سورة فصلت.
وعن عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه- قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: (اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك) أخرجه مسلم (2200)، وأبو داود (3886)، وابن حبان (6094) وغيرهم.
وعن جابر قال: كان لي خال يرقي من العقرب، فنهى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- عن الرقى قال: فأتاه فقال: يا رسول الله! إنك نهيت عن الرقى، وأنا أرقي من العقرب، فقال -صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل) أخرجه مسلم (2199)، وابن ماجه (3515)، وغيرهما. وفي رواية: (ما أرى بأساء، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه).
وعن عائشة -رضي الله عنها - قالت: رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في الرقية من كل ذي حمة) أخرجه البخاري (5741)، ومسلم (2193). ومعنى الحديث: (أنه- صلى الله عليه وسلم- أذن في الرقية من كل ذات سم (شرح مسلم للنووي) (7-298) وعن أنس -رضي الله عنه- قال: (رخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الرقية من العين، والحمة، والنملة) أخرجه مسلم (2196) وأحمد (3-118)، والترمذي (2056) وابن ماجه (3516).
قال الحافظ أبو العباس القرطبي في (المفهم) (5-580- 581 دار ابن كثير): (قول عائشة- رضي الله عنها-: رخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الرقية من الحُمة)، وقول أنس: (رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الرقية من العين، والحمة، والنملة) دليل على أن الأصل في الرقي كان ممنوعاً، كما قد صرح به حيث قال: (نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الرقي. وإنما نهى عنه مطلقاً، لأنهم كانوا يرقون في الجاهلية برقى هي شرك، وبما لا يفهم، وكانوا يعتقدون أن ذلك الرقى يؤثر. ثم إنهم لما أسلموا وزال ذلك عنهم، نهاهم النبي-صلى الله عليه وسلم- عن ذلك عموماً، ليكون أبلغ في المنع، وأسد للذريعة، ثم إنهم لما سألوه وأخبروه أنهم ينتفعون بذلك، رخص لهم في بعض ذلك، وقال: (اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك) فجازت الرقية من كل الآفات، من الأمراض، والجراح، والقروح، والحمة، والعين، وغير ذلك إذا كان الرقى بما يفهم، ولم يكن فيه شرك، ولا شيء ممنوع، وأفضل ذلك وأنفعه: ما كان بأسماء الله.. تعالى - وكلامه، وكلام رسوله- صلى الله عليه وسلم- أ.هـ.
والنبي صلى الله عليه وسلم -رقاه جبريل- عليه السلام- فيما أخرجه مسلم (2185) عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: كان إذا اشتكى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رقاه جبريل، قال: (باسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شر حاسد إذا حسد، وشر كل ذي عين).
وفي رواية أبي سعيد عند مسلم أيضاً برقم (2186)، أن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد! اشتكيت؟ فقال: نعم. قال: بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل ذي نفس، أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك.
والأحاديث في تعويذ النبي- صلى الله عليه وسلم- نفسه كثيرة، منها حديث أبي سعيد الخدري قال: (كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتعوذ من الجان، وعين الإنسان، حتى نزلت المعوذتان، فلما نزلتا، أخذ بهما وترك ما سواهما). أخرجه الترمذي (2058) وحسنه، وابن ماجه (3511) وقال الشيخ الألباني -رحمه الله- في التعليق على هداية الرواة (4-282): إسناده صحيح وثبت أنه -صلى الله عليه وسلم-كان ينفث بهما- المعوذتان - على نفسه في المرض الذي مات فيه، فلما ثقل، كانت عائشة -رضي الله عنها- تنفث عليه بهن، وتمسح بيد نفسه لبركتها) أخرجه البخاري (5735)، ومسلم (2192) واللفظ للبخاري.
والنبي صلى الله عليه وسلم رقى كثيراً من الصحابة من ذلك رقيته - صلى الله عليه وسلم لبعض أهله، يمسح بيده اليمنى، ويقول: اللهم رب الناس اذهب الباس واشف وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما) أخرجه البخاري (5743) ومسلم (2191).
وكان صلى الله عليه وسلم - إذا أتى مريضاً او أتى به إليه رقاه بالدعاء السابق أخرجه البخاري (5675) ومسلم (2191)وكان - صلى الله عليه وسلم- يعوذ الحسن والحسين ويقول: (إن أباكما كان يعوذ بها إسمعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة) اخرجه البخاري (3371).
وأقر الصحابة على فعل الرقية وأخذ الأجرة عليها، كما في حديث أبي سعيد الخدري من أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم-أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك، فقالوا: هل معكم من دواء أو راق؟ فقالوا: إنكم لم تقرونا، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلاً فجعلوا لهم قطيعاً من الشاء، فجعل يقرأ بأم القرآن ويجمع بزاقه ويتفل فتبرأ، فأتوا بالشاء فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل النبي - صلى الله عليه وسلم- فسألوه، فضحك وقال: وما أدراك أنها رقية؟! خذوها، واضربوا لي بسهم) أخرجه البخاري (5736)، ومسلم (2201) واللفظ للبخاري بل ثبت أمره - صلى الله عليه وسلم- بالرقية أحياناً، فقد أخرج البخاري (5738) ومسلم (2195) واللفظ للبخاري، عن عائشة قالت: (أمرني النبي غ، أو أُمر أن يسترقى من العين) وأخرج البخاري (5739) ومسلم (2197) واللفظ للبخاري عن أم سلمة - رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة فقال: استرقوا لها فإن بها النظرة).
والسفعة - بفتح السين ويجوز ضمها وتسكين الفاء - سواد في الوجه، أو حمرة يعلوها سواد، أو صفرة، وحاصل كلام العلماء أنه موضع في الوجه على خلاف لونه الأصلي.. والنظرة.. بسكون الظاء: نظر الجن، وقيل نظر الإنس، والأولى القول: بأنها أصيبت بالعين انتهى ملخصاً من (الفتح) (10- 284-285) تحت حديث (5739).
تبين من الأحاديث السابقة ثبوت الرقية بالقرآن والسنة المطهرة، وخصوصاً فاتحة الكتاب، والمعوذات، والدعاء المأثور عن النبي- صلى الله عليه وسمل- والرقية بكلام الله، وكلام رسوله- صلى الله عليه وسلم-.
هي أنفع الرقى.. وبوب البخاري: في صحيحه (32) باب: الرقى بالقرآن والمعوذات. قال الحافظ ابن حجر: هو من عطف الخاص على العام، لأن المراد بالمعوذات سورة الفلق والناس والإخلاص.. وهذا لا يدل على المنع من التعوذ بغير هاتين السورتين، بل يدل على الأولوية، ولا سيما مع ثبوت التعوذ بغيرهما، وإنما اجترأ بهما لما اشتملنا عليه من جوامع الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا أ.ه فتح الباري (10-275) تحت حديث (5735).
وقال ابن القيم: فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة.
وما كل أ حد يؤهل ولا يوفق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به ووضعه على دائه بصدق وإيمان، وقبول تام، واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه، لم يقاومه الداء أبداً، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء، الذي لو نزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطعها؟! فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه، لمن رزقه فهما في كتابه. زاد المعاد (4- 318).
ويقول: أيضاً بعد أن ذكر شيئاً من المعاني مما اشتملت عليه سورة الفاتحة: وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن يستشفى بها من الأدواء، ويرقى بها اللديغ، وبالجملة فما تضمنته الفاتحة من إخلاص العبودية والثناء على الله، وتفويض الأمر كله إليه، والاستعانة به والتوكل عليه وسؤاله مجامع النعم كلها، وهي الهداية التي تجلب النعم، وتدفع النقم، من أعظم الأدوية الشافية الكافية) أ.هـ زاد المعاد (4-162)
* الرياض