.. ومن المدائن تلتقط الشخصيات والأحداث وتصنع المواقف، وقد تكون متخيلة. وحتى حين تلتقط تكون العواطف والأخيلة هي المتنفذة، والفن يوغل في الفنية بقدر خلوصه.. من التسجيلية، والواقعية التي طنطن حولها النقد وقيل إنها الطريق الممهد الذي
سلكه (نجيب محفوظ) إلى جائزة (نوبل) لم تكنخالصة من شوائب الخيال والمبالغة التي قد تصل إلى الأسطرة، ولو عدنا إلى قصص (الجفري) مجال الدراسة، لوجدنا طائفة من الدارسين يرونه مرتهنا للبعد الاجتماعي، والأبعاد الواقعية والاجتماعية قد لا تتخلص من التسجيلية، وهذا المصطلح قد يكون أكثر وضوحا حين يتحول العمل القصصي أو الروائي إلى (فيلم روائي) إذ فيه تتجلى التسجيلية، ولكن هذا المصطلح قد تتجلى محققاته في كثير من الأعمال السردية وبخاصة (أدب الرحلات)، والتعامل مع المنهج التسجيلي بمقدار مطلب فني لا غبار عليه، ولكن حين يكون المنهج المتفرد تهبط فنيات العمل السردي بحيث يلحق بالتاريخ الوثائقي، وفي كتاب (الروائي والتسجيلي) لـ(هاشم النحاس) استيفاء لمتطلبات العمل الفني التسجيلي، والبعدان: الواقعي والاجتماعي يلتقيان معاً مع المنهج التسجيلي ولكن براعة الفنان وعاطفته وخياله تحدد القدر المطلوب من هذا المنهج وهذا ما تميزت به قصص (الجفري) لقد كانت مراوحته بين تلك السمات مصدر تشويقه، ولو عدنا إلى قصة (ناني) وهي واحدة من أبرز قصصه لوجدناها تراوح بين مناهج عدة.. و(ناني) فتاة أحبت (عاصما) واقتربت منه، ولم يبق إلا أن يترجم هذا الحب بالزواج، ولكنها في اللحظات الحاسمة كشفت أنها مريضة بالقلب وأنها مفارقة، فلا تريد أن تظلمه، ومن ثم قررت قطع العلائق لانتظار ما قرره الأطباء، ومن هنا تتقحم العواطف والأخيلة مواقف التسجيل، ومن ثم فقد كانت اللغة مكثفة وتصويرية معتمدة على القفز والانقطاع والعبارات المتجاورة المغلقة على نفسها، وصناعة الكتابة ليست بأقل أهمية من صناعة الفن، ولقد عيب على النقاد الأقدمين القول بالصناعة بوصفها أداء واعياً، والحق أن صناعة الأسلوب الأخاذ مطلب رئيس، وأصحاب المنخلات وعبيد الشعر هم الذين كرسوا وجودهم، وأصحاب الأساليب المتأنقة هم الذين تألقوا فهذا (طه حسين) و(أحمد حسن الزيات) ومن قبلهم (مصطفى لطفي المنفلوطي) كانوا واجهة الكتاب، ولما كان (النص) حروفا وكلمات وجمل وعبارات كان لابد أن يكون هناك مهنية لتشكيل الأسلوب الأخاذ، وأكاد أجزم أن السارد (الجفري) يعي هذه المهمة وأنه بارع بكل الخطوات، ولكنه حين يقترب من صياغة الأسلوب يكون الموج الانفعالي قد بلغ الشاطئ ومن ثم يتكسر قبل أن يبلغ مداه، إن الجمل المتلفة حول بعضها تبدو كما لو كانت طلقات تتابع ولكنها لا تتلاحم، والسارد قد يصطنع التقمص ملتقطا مشاعر كل الأطراف، فهو حين يحكي أو حين يدع الشخصيات تحكي يظل محتفظا بمستوى انفعالية واحد، حتى لكأنه والبطل فرسا رهان، وحين تكون الجملة متكأ السارد لا يأخذ الأسلوب دوره حتى تكون الوثائق، وقد تكون الوثائق مختلفة لتعميق المأساة، ورسالة (ناني) التي سقطت (فوق بقايا الناس وكأنها بقايا الحياة فوق الأحجار والرمال اللزجة والموج الواهن المتسكع على وجه البحر) هي وحدها التي تجاوزت العبارة إلى الأسلوب لا لشيء إلا لأنها رسالة تحمل الفاجعة، أعرف أننا بحاجة إلى مساءلة البطل، لماذا كسر الأعراف والعادات وهو الفنان التشكيلي الذي يجسد حيوات المقهورين بالريشة واللون واللوحة، لماذا تجاوز بتواصله مع (ناني) حدود اللياقة، أذكر وأنا أتساءل مداخلة بعض الأخوات عما إذا كان هناك فرق بين الفن والحياة، ومحاولتها التوسل بآيات الشعراء، وإذ يكون معها بعض الحق فإن من حق الناقد الموضوعي الأخلاقي أن يثير مثل هذه التساؤلات وإن كانت ممكنة الوقوع وإن كانت بعض المجتمعات تتفسح لمثل هذه الممارسات ولا ترى فيها من بأس، هي مجرد حقوق تستوفيها المناهج النقدية المشروعة، ولو حرم كل منهج من حقوقه لانكمشت واضمحلت، ومثل هذا التجاوز يعد غلطة، فهل كانت حدثا فرض نفسه، أم هي من أضغاث الأحلام، وما أكثر أحلام المبدعين فهذا (ابن أبي ربيعة) يقسم على نزاهته، وهذا الأمير الذي عزله (عمر بن الخطاب) لأنه ذكر مجالس الخمر وما ينتاب شاربها أقسم أنه لن يعاقرها، وإشكالية البعد الموضوعي من الشعر والسرديات ستظل قائمة، وقد لا يحلو النقد إلا بالاختلاف حول المشروعية.
وميزة السارد أنه يسوق السقوط بوصفه حدثاً لا غاية يمر به على أنه مرحلة في سياق حيوات الشخوص، غير أنه يتجافى استثماره لتعميق الرذيلة.
وإشكالية السارد انغماسه في الحلم حتى لا تجد لقوله مشروعية اجتماعية فضلاً عن المشروعية الأخلاقية، بمعنى أنه يقترب من المستحيل عرفا على الأقل، ففي قصة (الخفقة) تراه يمعن في التخيل متنكراً للواقع والسائد ممعنا في استدرار العواطف حتى لكأنه (المنفلوطي) الذي يبلغ في استدراره العواطف حد التملق متناسيا أن للتخييل حدوده المستساغة.
و(الجفري) الذي أصبحت تجاوزاته ومبالغاته مجال أخذ ورد بين النقاد، وهي تجاوزات محكومة بشيء من الضوابط، تراه لا يلتزم عناصر القصة من حيث الموقف والحدث والتنوير، فالحدث عنه قد لا يتطور بالقدر المطلوب إذ ربما تتداخل الأحداث الصغيرة قبل أن يستكمل الحدث الرئيس شوطه، والقارئ المتوتر ينصب تفكيره في مجرى الحدث ويسوؤه أن ينقطع المجرى بأحداث ثانوية ليست مهمة بالنسبة للقارئ، ولقد يكون القطع مقصوداً لذاته لتوتير الأعصاب والتشويق وبلبلة الفكر، ولكم يكون القاص حريصاً على التلاعب بمشاعر المتلقي وحمله على الرفض والاحتجاج، والقصة عند (الجفري) ترتبط بالحدث بل تكاد ترتهن للوقوعات العارضة، فليست تاريخية ولا (بوليسية) وإن كان ميالاً إلى النفسية وهو ميل لا تغذيه المنهجية كما أنه يميل إلى المغامرة، وموضوعات قصصه تبدأ من المرأة وتنتهي إليها، ولكن المرأة لم تكن غاية بذاتها، وإنما هي وسيلة غير مبتذلة لتمرير الموضوع الاجتماعي المتعلق بالحب أو بالمال أو بالعلاقات العائلية أو بالعمل الوظيفي أو بالصخب والضوائق الاجتماعية، وهو إذ ينطلق من قعر الواقعية فإنه لا يمضي معها ولا مع واقعية اللغة وإن قاربها في الحوار وتوقاها في السرد.
والجفري بوصفه موهوباً ومسكوناً بالهم الاجتماعي ومتواصلاً مع الإبداعات والمبدعين وراصداً لضجر النقاد من الشكل التقليدي للقصة ومن تشتت التصميم الجديد وإغراقه في الغموض والهلامية والمحاكاة البلهاء للمستجد الغربي فقد منح قصصه سمة جديدة راوحت بين المواءمة بين مختلف الأشكال، ولكنه لم يقطع صلته بمقومات الفن القصصي إذ لم يكن مقلداً في الشكل ولا في اللغة ولا منقطعاً عما يعده المنصفون من النقاد محققاً للإبداع القصصي، ولا سيما أنه عاش مرحلة التمرد على الفنون والوقوع في فوضى الكتابة التي خلطت بين الشعرية بضوابطها والسردية بأدبيتها، وحطمت الفوارق والأشكال واستفحلت الفوضى غير الخلاقة.
والجفري الذي سيطرت عليه المدينة بشكل واضح، أمعن في استغلال أشيائها ودق في وصفها، ولكنه لم يكن وصفاً حسياً ثابتاً إنه وصف تغلب عليه المشاعر، فالبحر والطريق والحديقة والإسفلت وكل الأشياء الثابتة والمتحركة تتحول عنده إلى لغة كما لغة الجسد والإشارة إنه يحسن توظيفها للتعبير عن لحظاته المتوترة والمسترخية، ولو ذهبنا نلتمس صورة البحر في مجموعته تلك لوجدنا خليطاً من الصور المرتبطة بالمشاعر المتقلبة وصورة البحر في ظل التوظيف الشعوري لم تكن حيادية كما لم تكن (رومانسية) ولكنها خليط من هذا وذاك، والجفري يتكئ في استثماره العمق والاتساع والاضطراب والأمواج على الصورة.
تلك هي أبرز ملامحه الفنية و الدلالية واللغوية ولا أحسب تلك المجموعة جماع خصائصه واتجاهاته وسماته ولكنها آخر أعماله ومن ثم ستكون الراصدة لتحولاته على أنه انصرف عن الإبداع السردي إلى الكتابة الصحفية الأمر الذي ترك فراغاً في عالمه القصصي.