يقول الإمام ابن القيم عن أستاذه ابن تيمية رحمهما الله: (كان يدعو لأعدائه، ما رأيته يدعو على واحد منهم، وقد نعيت إليه يوماً أحد معارضيه الذي كان يفوق الناس في إيذائه وعدائه، فزجرني، وأعرض عني، وقرأ: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}؛ وذهب لساعته إلى منزله، فعزى أهله، وقال: (اعتبروني خليفة له، ونائبا عنه، وأساعدكم في كل ما تحتاجون إليه)؛ وتحدث معهم بلطف وإكرام بعث فيهم السرور، فبالغ في الدعاء لهم حتى تعجبوا منه)!
تقرأ الآن بعض أدبيات من يقدمون أنفسهم على أنهم دعاة، وطلاب علم، وأهل الذكر، فلا تجد إلا الشتم والسب والإيذاء؛ بل إن بعضهم هدد خصومه (بالقتل)، وآخر طالب (بالسجن والجلد)، وثالث يعمر مجالسه، وأحيانا (خطبه)، بشتم المختلفين معه، ولا يتورع عن الإساءة إليهم، والحط من قدرهم والتحريض عليهم بمناسبة ودون مناسبة. والغريب أن يصنف هؤلاء أنفسهم بأنهم متبعون، وأنهم -كثافة وفكر وممارسة- خرجوا من تحت عباءة الإمام ابن تيمية، وهم به مقتدون! فتتساءل: كيف يستقيم هذا الادعاء مع تاريخ هذا الشيخ الذي كان سلاحه المناظرة، والكلمة، والحجة، ورد القول بالقول، وتلمس العذر للمخالف، ولم يلجأ (قط) في مواجهة من يختلف معهم إلى سلاح (الدسائس) الرخيصة، أو استعداء العامة والخاصة على من يختلف معهم. ومن يقرأ تاريخ ابن تيمية قراءة متفحصة، سيجد أن هؤلاء أشبه ما يكونون بأعداء هذا الشيخ وبسلوكياتهم، وأخلاقياتهم، وضيقهم بالاختلاف.
يقول التاريخ: (اعتدى أهل البدعة على الشيخ فضربوه، ولما علم تلامذته ومحبوه جاءوا إليه مسرعين، فأرادوا أن يثأروا للشيخ، فمنعهم الشيخ، وقال: هذا لا يحل. فقالوا: هذا شيء لا نصبر عليه. قال لهم الشيخ: إما أن يكون الحق لي، أو لكم، أو لله، فإن كان الحق لي فهم في حل منه، وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني وتستفتوني فافعلوا ما شئتم، وإن كان الحق لله فإنه يأخذ حقه إن شاء كما شاء. فقالوا له: هذا الذي فعلوه معك هو حلال لهم؟ قال: هذا الذي فعلوه قد يكونون مثابين عليه مأجورين فيه، قالوا: فتكون أنت على الباطل وهم على الحق؟ فإذا كنت تقول إنهم مأجورون فاسمع منهم ووافقهم على قولهم. فقال لهم: ما الأمر كما تزعمون؛ فإنهم قد يكونون مجتهدين مخطئين، ففعلوا ذلك باجتهادهم، والمجتهد المخطئ له أجر)! ويقول عنه زين الدين بن مخلوف أحد قضاة المالكية، وأحد أشهر مخالفيه: (ما رأينا أتقى من ابن تيمية، لم نُبقِ ممكنا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا).
وأخيرا تذكروا قوله صلى الله عليه وسلم: (إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم) كما كانوا يفعلون في (محاكم التفتيش).
إلى اللقاء.