يختلف النقاد والمفكرون عند محاولة تعريف عبدالله القصيمي، وهل كان عالماً مجتهداً أم فيلسوفاً وعبقرياً أحدثت أفكاره تغييراً في الواقع المحلي والعربي، أم أنه كان مجرد عدمي ناقم لم يقدم في كتبه العديدة ما يشفع له لكي يكون في مصاف مفكرين العرب الكبار..
عاش عبدالله القصيمي قرابة قرن، تنقل فيه من أعمق درجات الإيمان إلى أقصى مراحل الإلحاد، غادر نجد وهو ابن الخامسة عشرة، درس في الشارقة والهند والعراق والقاهرة، وألف أعظم الكتب دفاعاً عن الوهابية (الثورة الوهابية)، ثم شن أشرس هجوم على مشايخ الأزهر وعلى الصوفية والأشاعرة وتوسلهم بالأولياء، وكان ليوسف الدجوي المؤمن بجواز التوسل بالأولياء نصيب الأسد عندما خصه بكتابه الشهير (البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية)، ثم تلاه القصيمي بكتاب آخر أسماه (شيوخ الأزهر)..
حدثت الكارثة، وتم فصله من الأزهر لكن ذلك لم يوقفه من الاستمرار في ممارسة حلقات الهدم، بل زاده حدة في نشاطه الفكري الإسلامي دفاعاً عن السلفية في بداياته، ليتصدى لكاتب شيعي انتقد الوهابية في كتاب ضخم أسماه (الصراع بين الإسلام والوثنية)، هاجم فيه الأثني العشرية الشيعية..
ثم ما لبث أن فاجأ السلفيين عام 1946 بهجوم ونقد حاد شديد على الوهابية والسلفية، وذلك عبر كتابه الشهير (هذه هي الأغلال) والذي واجه بسببه متاعب جمة، فبرغم من أنه لم يعلن إلحاداً في هذا الكتاب إلا أنه صدر بسببه حكماً بالردة عليه واستباحة دمه..
لكن برغم من ذلك حصل على إشادة مميزة من شيخ الأزهر محمود شلتوت لنقده للأغلال السلفية، وأن الأزهر لم يصدر خلال ألف سنة كتاباً بهذا الوزن النقدي والفكري والتجديدي، لكن السلفي رشيد رضا انتقد كتاب هذه هي الأغلال..
انبرى للقصيمي علماء من مسقط رأسه (نجد) منهم الكاتب السعودي عبدالعزيز السويح النجدي 1949 فكتب (بيان الهدى من الضلال في الرد على صاحب الأغلال) وكذلك رد عبدالرحمن بن ناصر السعدي عليه بكتاب أسماه (تنزيه الدين ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله)، ومنها أيضا رد رفيقه في البعثة النجدية عبد الله بن يابس على افتراءات القصيمي بكتاب (الرد القويم على ملحد القصيم 1947).
لم سيرة منهجه الهدمي عند حد تفجيره لمرجعيته السلفية، بل تجاوزه إلى مراحل أكثر تطرفاً، هاجم فيها كل تلك المسلمات التي كان يذود عنها خلال مرحلته الأولى، وكان من أهمها كتب هذا الكون ما ضميره وأيها العقل من رآك، ولئلا يعود الرشيد، ثم عاد وكرًس كتاب عاشق لعار التاريخ للنيل من الناصرية وثورة يوليو العسكرية، فقد حاول بكل ما يملك من بلاغة لغوية وفنون التكرار أن يهدم مرجعية القومية العربية، وأن يعدم الدكتاتور الذي فشل في السلم قبل أن يسقط في حرب الأيام الستة في 1967..
لكن القصيمي خرج عن نمط تفكيره الهدمي عندما دافع بدهشة عن وجود إسرائيل في قلب العالم العربي، وأعطى لوجودها شيئاً من القيمة، وأن بروزها وتفوقها الدائم على ظواهرالعرب الصوتية والرجعية هو بمثابة التحدي الكبير لتخلفهم، والمرآة التي تكشف لهم هزالهم وضعفهم، وتفضح بؤسهم السياسي والعلمي والثقافي.. ولا تزال إسرائيل الكيان الصغير تمارس استفزازها لتخلف العرب وضعفهم.. تسرق أراضيهم وتقتل أطفالهم وتبقر بطون نسائهم في فلسطين بينما هم يهربون من مصيرهم المحتوم وهو مواجهتها الحقيقية بدلاً من الاستنكار والاستغاثة في نيويورك.