الحمد لله رب العالمين خالق الموت والحياة و(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) .. نقول ذلك ونعتقده أولاً، ونقوله ونعتقده أخيراً، ونقوله ونعتقده بين ذلك، ونصلي ونسلِّم على خاتم الأنبياء والمرسلين.
لقد اختار الله إلى جانبه صديقي وزميلي وأخي، وصديق وأخ زميل العديد من الناس، طلعت فريد وفا، كان ذلك بداية الأسبوع الماضي بعد أن طهّره إن شاء الله بمرض عضال ظل يقاسي آلامه وتقلباته، وجزره ومده السنوات الأخيرة من حياته، وتلك سنّة الله في خلقه وهي سنّة أدعو الله أن لا يلحقنا بها إلا على الشهادة، وحسن الخاتمة وهو جل وعلا عنا راض، وتغمد الله طلعت وأمواتنا برحمته الواسعة ... لقد التقت وتقاطعت في شخص طلعت وشخصيته دوائر عديدة بطباع وأصناف مختلفة يصعب حصرها ليس أولها الدائرة المهنية الصحفية ومنتسبوها محلياً وخليجياً ودولياً، تلك الدائرة الفاعلة المؤثرة الحيوية ... كما أنه ليس آخرها دائرة المفكرين المؤثرين في مجتمعنا ودولتنا أعزها الله عبر العمل الوطني بالقلم والكلمة الحسنة.
إنها دوائر عديدة يصعب حصرها وعدها، ووصفها يحتاج لمجهود في الوصف الاجتماعي والمهني بل والإنساني وهو خارج محور رثائي هذا لصديقي طلعت، ولكن قراءات لمرثيات طلعت في الصحف مؤخراً، تعطي القارئ دلالة واضحة عن ما أقصده من كثرة الدوائر التي تلتقي في شخص طلعت، وهكذا يكون الرجال الذين يمن الله عليهم بالنجاح والتوفيق والنفع والبركة.
نحن ثلة من الأصدقاء بخلفيات مختلفة جداً جمعتنا وربطتنا صداقة قديمة تتجاوز الأربعين عاماً ... بدأت على مقاعد الدراسة وممرات المدرسة وصفحات المناهج وحوارات التعلم، نجتمع كل شهر في منزل أحدنا ... وكانت ليلة الاثنين الماضي ليلة اجتماعنا الشهري لهذا الشهر، وكان مقرراً أن نجتمع في دار أستاذنا ووالدنا عثمان الصالح - رحمه الله - وتقرر أن نبدأ اجتماعنا بعيادة أحد أعضاء ثلتنا الأعزاء الذين لن يتمكنوا من الحضور، حيث يرقد على السرير الأبيض في الجناح الشرقي بمستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض ... وكان والحمد لله ذلك واجتمعنا هناك في الغرفة رقم 24 بالدور الثاني، ولا أنسى ما حييت في الزيارة وجه طلعت المشرق رغم ملامح المرض، ولا أنسى ابتسامته التي فاضت بها ملامحه رغم وهنه، كلنا قبَّل جبينه، والتقت في قلبه الكبير عواطفنا جميعاً وتراكمت سنوات مراحل وتجارب في نظرات متبادلة تجرد فيها حباً ووقاراً وصدقاً لا تستثيره إلا شخصيات صادقة حقيقية، تفيض إنسانية قد طهرها المرض واغتسلت بالوفاء والمروءة.
كلنا خرج من تلك الغرفة مودعاً ونحن نكاد نجزم أنه آخر لقاء يجمعنا به - رحمه الله - في هذه الدنيا الفانية .. وإنني لا أستطيع وصف الجو في تلك الغرفة في تلك السويعة وطلعت يلقب نظره ويوزع نظراته بين أصدقائه ومحبيه الذين تجمعوا في تلك الغرفة، فأدركت أنه حريٌّ بمثل طلعت - رحمه الله - أن يجتمع فيه احترام ومحبة وإخلاص عدد كبير من الناس، فقد كان قريباً لكل خير قولاً وفعلاً، وبعيداً عن كل شر ترفعاً وبعداً، وقد قيل إن من معايير أقدار الرجال، مقدار الألم الذي يخلفه موتهم وفقدهم في قلوب الناس، وقد اطلعت وتأثرت بما كتبه وقاله الكثير في رثاء الأخ طلعت - رحمه الله - من الإخوة والأخوات الذي ينتسبون لدوائر كثيرة ومتنوعة التقت كلها وتقاطعت في شخص طلعت وشخصيته .. ولكن دائرة تهمني لم يسمع منها القراء من أبناء الوطن ألا وهي دائرة تلاميذ وزملاء معهد العاصمة النموذجي، حيث تعلم طلعت ونشأ وتشرفنا بزمالته ومحبته، إن زمالة المعهد كانت رابطة قوية استمرت حتى يومنا هذا وتزيد قوة، لقد جمعت الرابطة الزملاء سنة بعد أخرى في مكان واحد وعلى قلب رجل واحد وهمومهم منتشرة في مناحي الحياة المختلفة، وطلعت كان أحد أعضائها البارزين ويجمعنا لقاء كل سنتين أو ثلاث نلتقي فيه ويلتقي أبناؤنا وكان طلعت في المقدمة في التنظيم والعمل والمساندة، وكان في المؤخرة بروزاً وظهوراً .. وكان أحد إشراقات الاجتماعات المتكررة الذي يجتمع عنده وحوله الجميع فكراً وعاطفة وضميراً، لقد كان طلعت ذا فكر نير محوره الاعتدال وهمه الوطن وأهله وولاة الأمر فيه وتطوره وحسن سمعته، فكر منفتح على العالم بأصقاعه، والمجتمعات بأطيافها، موضوعي عادل ومنصف في الطرح والتناول، وتقاريره الصحفية الرزينة خير دليل، حيث يندر أن تجد توتراً في الطرح أو استفزازاً في التناول، كان - رحمه الله - ذا عاطفة جياشة تجاه أسرته وزملائه وأصدقائه، عاطفة معقولة بعقال الإيمان والرجولة، تحس بسخونتها عندما يكون الحوار عن الإسلام أو الوطن أو أهله.
لم نسمع منه إلا خيراً فقد كان يتفادى النطق بغيره عن الناس، وقد حوى جسمه النحيل ضميراً حياً يحب للناس ما يحبه لنفسه ويحس بالمسؤولية ويقوم على أدائها والزملاء الأكارم من جريدة الرياض وعلى رأسهم الأخ الكبير الوفي تركي العبدالله السديري يدركون ذلك .... لقد كان طلعت عنصراً مشرقاً في عصبتنا، عصبة معهد العاصمة النموذجي، وكان رمزاً وتجسيداً للوفاء والالتزام والإثراء والولاء.
كان كذلك واستمر وزاد إشراقاً وهو يرتقي سلم العلم في المملكة وخارجها، على كرسي التعليم وكرسي المكتب، وهو يرتقي سلم المهنة الصحفية من أشرف عتباتها وعلى أعلى مستوياتها المهنية الخلقية، وانه الآن وقد اختاره القدر وافتقده وخسره أصدقاؤه سيشرق مكانه بذكراه العطرة وأعماله الشريفة.
إن كان الرجال والنساء نتاج بيئاتهم وبيوتاتهم تربية ونشأة فوق القدرات الشخصية والهبات الربانية، فجزى الله خيراً والدي طلعت وأسرته وآله على مواطن كريم أعطى وضرب مثلاً عالياً في العطاء والوطنية، وألهمهم الصبر والسلوان وعوضنا الله في ذريته كل خير .. رحم الله طلعت وغفر له إنه غفور رحيم والحمد لله رب العالمين.