لم يكن فوز الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن ناصر المانع بجائزة الملك فيصل العالمية حدثاً مفاجئاً ولا غريباً، بل ربما كان تأخره إلى هذا الوقت هو المستغرب وأحسب أن الإبطاء مرتبط بالحقل المعرفي الذي أمضى فيه زهرة شبابه وقوة فتوته ورصانة كهولته،
|
وفوز مثله بجائزة مثل تلك الجائزة يعد مفخرة لكل الأدباء والعلماء والمفكرين الجادين الذين لا تلهيهم مغريات الحياة ولا يُعْشِيهم بريقها الخلَّب، وما أخصه في الفوز بتهنئة ذلك أن فوزه فوز لكل لداته ومجايليه الذين يعرفون الدكتور عبدالعزيز عن قرب، ويعرفون زهده بمظاهر الحياة وأضوائها وحبس نفسه بين كتبه ومشاريعه العلمية لا يَشُقُّون على أنفسهم بالتهنئة وإنما يتضرعون إلى الله أن يمده بالصحة والعون ليحقق ما يصبو إليه، فالطريق الشاق الذي حمل نفسه عليه لا يُلَقَّاه إلا الجادون الناصحون لأمتهم الحريصون على إحياء تراثها الأدبي واللغوي والفكري، وقليل ما هم، لقد عرفت أخي وأستاذي عن قرب، وكنت ولما أزل أراهن على أن تراث الأمة بخير متى وجد هذا النوع من العلماء الذين نذروا أنفسهم وجهدهم ومالهم وأعرضوا عن مغريات الحياة الدنيا من أجله وفي كل بلد عربي وإسلامي بل وفي كل فترة تاريخية ينجم هذا النوع من الأناسي الأفذاذ، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن بعث الله للمصلحين على رأس كل مئة سنة لتجديد أمر الدين ونفي ما علق به، فإن لتراث الأمة مثل ذلك من المحققين والدكتور المانع واحد من العلماء الجادين الذين يمارسون مهنتهم وهواياتهم بمعرفة واقتدار، وأفضال الجائزة على المشهد العلمي كبيرة، ولاسيما أن المركز احتضن كفاءات علمية واستضافهم وطبع مؤلفاتهم واستثمر خبراتهم وهيأ ذلك كله لِرُواد المعرفة من طلاب وباحثين، ولقد كنت من أحرص الناس على الإشادة بذوي المشاريع والدفع لتهيئة الأجواء الملائمة لإنجاز مهماتهم وتحريض المقتدرين لتبني مثل ذلك، والدكتور المانع يعد بحق من أصحاب المشاريع العلمية فهو حين اشتغل بتحقيق التراث الأدبي لم يكن متسرعاً ولا مُتذوقاً ولا ملولاً بل أخذ مهماته بالأناة وطول النفس والتقصي واستكمال مناهج التحقيق ومتطلباتها والكتب التي أخرجها للناس اتسمت بالضبط والتدقيق والتوثيق فيما جاءت بعض التحقيقات التجارية تَشْوِيْها متعمدا للتراث الأدبي والعلمي، والذين زاملوا الأستاذ الدكتور عبدالعزيز أو تتلمذوا عليه يعرفون ذلك عنده من لحن القول، فهو الأكثر تذمرا من الأدعياء والأكثر برما من تشويه التراث، بل هو من أزهد الناس في التكاثر في التأليف أو التحقيق، والذين يرقبون مثل هذه المنجزات مثلي يضيقون ذرعاً بالإنجازات الفجة التي تغرر بالمتلقي وتشوه النصوص ولا تتوفر على التوثيق والتحقيق المعرفيين، والمشاهد العلمية عرفت أفذاذاً خلدوا ذكرهم وخدموا أمتهم وجاءت أعمالهم في غاية الجودة، وأحسب الأستاذ الدكتور المانع من هذا النوع، ولن أكون مبالغاً ولا مجاملاً إذا قلت إنه ورصيفه الدكتور عبدالرحمن العثيمين من أبرز المحققين للتراث في المملكة، وكم تمنيت دعم مشاريعهم بتوفير الأجواء الملائمة ليمضوا فيماهم فيه، ومركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية ذو فضل على الأمة العربية والإسلامية بما يقدمه من خدمات جليلة على مختلف الصعد فلقد تفضل بطبع أعمال كثيرة من الوزن الثقيل:
|
وكل امرئ يولي الجميل محبب |
وكل مكان ينبت العز طيب |
والمركز له أفضال كثيرة، لعل منها طباعته لعملين جليلين للأستاذ الدكتور عبدالعزيز المانع هما:
|
- (المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب المتنبي) في أربعة مجلدات
|
- و(كتاب قَشْر الفَسْر) في مجلد ضخم
|
وهما من الكتب التراثية المهمة، وبخاصة عند محبي شعر أبي الطيب، ولقد تفضل أخي الكريم فأهداني كتاب القشر في تحقيق بديع لا يتوفر على مثله إلا أولو العزم من العلماء، ولقد ضاق ذرعا بالعابثين وواجههم بأخطائهم الفادحة، ولاسيما الذين يحرفون العناوين من بعد مواضعها، ومع أنه تتبع المصادر وخَرَّج النصوص وضبطها واعتمد المخطوطة الأم فقد وصف عمله بالمتواضع وتلك خليقة العلماء الأفذاذ. وكتاب القشر نقد علمي لشرح (ابن جني) لديوان المتنبي، وابن جني من ألصق العلماء بالمتنبي وأقدرهم على شرح الديوان، حتى أن المتنبي حين يُسأل عن مشكل شعره يندب السائل إلى روايته بقوله: (اذهبوا إلى الشيخ الأعور فهو أدرى مني بشعري وإنه ليقولني ما لم أقل) أو كما قال: ويعني بالشيخ الأعور (ابن جني) فإذا كان ابن جني على جلالة قدره ولصوقه بالمتنبي ومعرفته بدقائق شعره يُدرِك عليه (الزوزني) تلك الهنات فما بالك بغيره من الشراح، على أن (الزوزني) لم يكن وحده الذي استدرك على (ابن جني) فمراجعة كتاب (رائد الدراسة عن المتنبي) تقف بالمتتبع على عدد من العلماء الذين استدركوا على ابن جني، ولا غرو فالمتنبي يقول وقوله عين الحق:
|
أنام ملء جفوني عن شواردها |
ويسهر الخلق جراها ويختصموا |
ولقد كنت من محبي المتنبي والمدمنين على قراءة شعره ولا أذكر شارحاً لديوانه إلا سعيت جهدي للحصول عليه، ولقد سافرت إلى (مرابد) بغداد سبع سنوات متتالية، وفي كل مرة أذهب إلى المكتبات التراثية القديمة أبحث عن أندر الكتب فكان أن حصلت على كتب تراثية ذات مساس بالمتنبي، بل هي ذات مساس بشارحه (ابن جني) ومن ذلك كتاب (الفتح على أبي الفتح) ل(ابن فورَّجه) وكتاب (شروح شعر المتنبي) الذي جمعه وحققه الدكتور محسن غياض عجيل إذ جمع فيه ثلاث مخطوطات منها مخطوطة (التجني على ابن جني) (لابن فورَّجه) و(المستدرك علي ابن جني) (لأبي فضل العروضي)، و(ابن جني) هو راوية شعر المتنبي في الشام فيما كان (ابن رشدين) راويته في مصر، أما راويته في بلاد فارس فهو (علي بن حمزة البصري)، وكل أملي أن يفرغ الدكتور لتحقيق الفسر الذي سيء تحقيقه ومات الخلوصي قبل إكماله. والجائزة التي ظفر بها المانع لقاء تحقيقه العلمي لكتب تراثية نادرة تتعلق بشروح شعر المتنبي قد تُنبِّه إليه وبخاصة أولئك الذين ينالون من شاعريته أو من جنون العظمة عنده، وعظمة الإنسان ليست في اتفاق الناس على تألقه ولكنها في اختلافهم وتناقض آرائهم، (فالعقاد) في عبقرياته أشار إلى هذا المؤشر وضرب مثلاً بالخليفة الراشد (علي بن أبي طالب) إذ أحبه قوم فعبدوه وكرهه آخرون فقتلوه، وكم كان بودي أن يستصحب المتأففون من النقد هذا المؤشر، فهذا المتنبي أُلفت الكتب بسرقاته، ونفي من عالم الشعر وطعن في نسبه وشرفه وظل شامخاً تلتطم على سفحه أمواج النقد، ومن أراد الشهرة استدعاه متخذاً منه سلماً إليها، وسيظل عظيماً وإن رغم أنف الناقمين.
|
أقول قولي هذا وأسأل الله لأخي المتألق الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن ناصر المانع مزيداً من التوفيق والسداد ليفرغ لمشاريعه العلمية وأملي في محافلنا العلمية والثقافية أن تشد من عضده وأن توفر له الأجواء الملائمة لكي يكون (شاكر السعودية) في خدمة لغة القرآن وما ذلك على (جامعة الملك سعود) التي ينتمي إليها بعزيز وبخاصة في عهدها المتألق ومبادراتها المباركة.
|
|