السكون يحتوي لحظات المساء، وحفيف آت من الحجرة المجاورة لورق يتقلب بين أصابع توحي بنهم لالتهام السطور.. وكما يسيل لعاب جائع حيث تزكم أنفه رائحة شواء في أماسي الشتاء، شعرت بتوق شديد لكتبي إذ لم يكن معي منها في الرحلة إلا عدد لا يتجاوز سوانح الوقت الذي خططته للرحلة..
تخيلت أن زميلتي المجاورة لي قد استولت على رواية مشوقة أو دراسة معمقة، أو ديوان شعر يغري بالقراءة، وترددت في أن أطرق عليها الباب، فهو وقت راحتنا من يوم حافل بين اجتماع ونقاش ووضع تصورات، ونقد قائم، وتوقع مستقبل.. لكن حفيف الورق حرك في نفسي ما يحركه الجوع والعطش فكأنني ألهث من صدأ، لا أنكر أنني قلبت كتابي مرة وأخرى، لكنني كمن شبع من طبقه وأغراه طبق الجار لا لطمع ولا لفراغ عين, وإنما لأن جوع القراءة حارق، وعطش من إمتاعها قاتل.. لا أنكر أيضا أنني لم أستطع النوم، تقلبت مراراً ثم قطعت الحجرة ذهاباً وإياباً لمرات كانت كفيلة بمعرفتي تفاصيل بساطها، ومحتوياتها، وما سهت عنه يد المنظف من دبوس لراحل أمضى فيها شطراً من الوقت، غير أن الدبوس أيضا حرك مخيلتي لأرى كومة الأوراق وأرسم سطورها وأخطط صورها، وألتهم ما فيها فربما قصيدة أودعتها أمي في حقيبتي عند سفري تبثني فيها لواعج فقدها, وربما رسالة من زوجي يؤكد لي فيها متابعته لما تركت خلفي من واجبات أولها تسديد فاتورة الكهرباء والهاتف كي لا يتعثر الساكنون في ظلامه حين يقطع عنهم التيار، أو لا يستطيع أن يُطمئِنَ عني جارتي التي تعودت أن تراقبني من نافذتها المطلة على حديقتي، وتدعي خوفها علي عندما أخرج مبكرة لعملي وأعود متأخرة بعد الظهر منه، فهي تمنحني شرف مراقبتها لأي حركة في بيتي، ومن ثم مهاتفاتها لمعرفة التفاصيل، فإن انقطع الاتصال عنها فإنها ستصاب بخيبات، أو ربما هي ورقة خاصة بي سجلت فيها خواطري يوم ترعد السماء فأنكمش في حجرتي مهابة للصواعق، أو يزبد البحر فأتخيله يلتهمني..
حفيف أوراق الزميلة درَّ أخيلتي، وسلب ليلتي، ونهمي بمثل ما حرمني من الراحة والغفوة، ما أفقت من تخيلاتي التي أستفزها، وشهيتي للقراءة التي أوقدها إلا بالفجر يطرق النافذة، أقل من ساعة وعلينا مغادرة الفندق لنلحق بالوفد الذي معنا.. استعجلت إتمام أموري وجارتي لا تزال أوراقها تتقلب وحفيفها يرهقني..
طُرق باب حجرتي فإذا بها، سألتني بلهفة وخوف: هل تشكين من شيء، وهي داخل حجرتي، وأذناي لما تزالان تستقطبان حفيف الورق يتقلب، وقد تمادت دهشتي حدا أمسكت معه بكلتا كتفيها، هززتهما وأنا أوجه السؤال إليها: ما هذا الورق يتحرك طيلة الليل في حجرتك..؟
تبسمت وهي تخبرني بأن نافذة التكييف في حجرتها معطلة، وقد ستروها بنوع من الورق وتركوا جزءاً منها مفتوحاً ليتسلل منه الهواء للحجرة، فعند التقاء الهواء بطرف هذا الورق يُصدرا صوتا كأنه الذي بلغني...)
*** السطور السابقة من قصة طويلة لي بعنوان: (تأويل على نحو ما)،
وفي موقف حدث لزميلة قبل أيام مع اختلاف في التفاصيل ما يقارب المضمون, فأهدي لها هذا الجزء من القصة.