العراق والحجاز بيئات أعتقد أن لهما قصب السبق في الحركة الثقافية، وفي مجال الفن بأنواعه المختلفة كذلك. وقد حلل المؤرخون أسباب ذلك وعللوا احتضان هذه البيئات لكل جديد، وأشاروا إلى الدور المحوري لكل منهما في كل منشط، وطبيعي أن يجري في ذلك الجدل، وأن يقع الاختلاف، ولم تكن هي البيئات الوحيدة الخصبة، بل شاطرتها أقاليم أخرى في الوطن العربي لا تقل عنها شأناً، مستقبلة أو مرسلة.
|
في هذه البيئات وغيرها ولد عباقرة تنبؤوا للمستقبل، وإن كان مما سأورده لم يختص في زمن دون سواه، أو بيئة وشخص دون آخر، إذ إن قوة التخيل، والقدرة على التنبؤ، واستشراف المستقبل توافرت على سبيل المثال عند أكثر من شاعر.
|
من هذا القبيل، وقبل مايزيد على (مائتي سنة)، أي قبل اختراع (الراديو والتلفزيون) وغيرها من وسائل الاتصالات والتقنيات الحديثة المتطورة نجد (سعد البيروتي) يقول:
|
غنّت (سُليمى) بالعراق فأسمعت |
أهل (الحجاز) على البعاد نشيداً |
ولسوف إن رقصت (بمصر) فقد نرى |
في (أصفهان) لرقصها تأويدا |
آنذاك بالتأكيد أنهم لم يسمعوا ولم يشاهدوها، لا في (الحجاز)، ولا في (مصر)، حيث كان الكتاب والرواية الشفوية أحياناً هما الوسيلتان الوحيدتان، وقد يعتري هذا النقل شيء من التحريف والسرقة والانتحال، وكتب التراث حافلة بمثل هذا الرصد والتتبع والاستقصاء للحرمة الثقافية.
|
من هذا الاستشهاد نقف على حقيقتين أثبتهما الواقع:
|
الأولى: وقد أشارت إليها نبوءة الشاعر، وقوة الحدس لديه، فها هو (الغناء، والتمثيل)، والرقص) ينقل للمشاهد على الهواء مباشرة من وإلى (الحجاز، ومصر، وأصفهان) وغيرها من الأصقاع. إذن (التاء والسين وسوف) دلالاتها تحققت، بل أصبحت المؤسسات الإعلامية تتنافس على التسويق وتحتكر الإنتاج وتتقاضى أمام العدالة حتى في تصدير ما يمكن وصف بعض صوره بالرذيلة، فهي من الحقوق الواجب حفظها، والمحرم السطو أو التعدي عليها.
|
الثانية: ونحتاج إلى شيء من التحقق والتثبت فيها ألا وهو شغف أهل (الحجاز) في القديم وتعلقهم بالغناء، وارتياد منتديات اللهو، في جو من الحرية والتسامح كانوا يعيشونه. هذا الجو الخلاق هو الذي أوجد الإبداع والعطاء الأدبي، وأسهم في حركة الانفتاح كما توافر لنا في بعض المصادر.
|
مما لا شك فيه أن هذه البيئات كانت حاضرة الخلافة في عصر صدر الإسلام وما تلاه، ثم أنها إلى جانب ذلك ملتقى ثقافات متنوعة، وتحتل مكانة اقتصادية جعلها محور تحكم في الحركة التجارية، وقد تنتج هذه الظروف ما لا ينتجه سواها، ولا تزال بعض هذه البيئات رغم ما تكالب عليها من ظروف تتجاوب مع كل جديد وافد وتتفاعل معه، ولكل دولة أو شعب قيمه ودساتيره وقوانينه التي تضع حداً فاصلاً فيما يقبل ويرفض، وفي كلتا الحالتين تبقى هناك الساحة مفتوحة للحوار، ومستوعبة للاختلاف من كلا الأطراف. ا-ه
|
|