كنا ندرس في كلية الشريعة بالرياض وكانت تقع في شارع الوزير (شارع الملك فيصل) وكانت قريبة من حلة العبيد، حيث تكثر المطاعم وأدوات الطرب فهم يبيعون العود والطبول وغيرها في سوق مسقوف بحديد وله فتحتان من الغرب والشرق، أما اليماني الذي يفطر عنده الطلاب فكان يقدم الكبدة مع الشوربة لطلاب المعهد العلمي وكلية الشريعة واللغة العربية وغيرهم، على الرغم من ضجيج من يجربون صوت العود للشراء أو التسجيل.
وكان طلاب كلية الشريعة يفطرون عند اليماني (أحمد) أو عند بائع الفول الشهير بادحدح في نفس الحلة؛ وأكثر الطلاب حرجا مَن هم في آخر سنة من كلية الشريعة (كان لا يوجد إلا كلية شريعة ولغة عربية ومعاهد علمية ولم توجد جامعة الإمام)، حيث يكثر المراقبون لهم لاختيار القضاة وكتاب العدل ممن هم في السنة الأخيرة؛ ولكن ذكاء الطلاب يجعلهم يعرفون المراقبين لهم سواء من الطلاب أنفسهم أو غيرهم، ولأن الهروب من مهنة القضاء يومها كان مرغوبا، ولا يحب الالتحاق بالقضاء إلا القلة القليلة جدا، فقد كان الطلاب يحاولون أن يظهروا بمظهر يخالف سمت القاضي وحنكته وهدوءه، بل يتعمدون أن يقال عنهم إنهم لا يصلحون لمهنة القضاء، فبعضهم يضع (بكت) الدخان في جيبه ويحاول أن يراه الكثيرون حتى يقولوا عنه إنه مدخن لا يصلح للقضاء؛ وعلى الرغم من ذلك لا يسلم من تحويل وظيفته للقضاء على الرغم من هروبه؛ وهي وظيفة لفئة معروفة لطيف من أطياف المجتمع إلى الآن، خاصة من لهم سلف في القضاء!!
وكان هناك عرف ساري المفعول وهو: أن من له قريب يعمل في القضاء أو كتابة العدل فهو سوف يكون مثله غالباً؛ لذا نرتاح نحن الذين من طيف لا يمت للقضاء ودهاليزه، على أننا لا نصلح للقضاء ولا يلتفتون إلينا؛ لأننا غير مؤهلين على الرغم من دراستنا مثل زملائنا القضاة، فلا ينظر لنا الرقيب يومها أبدا، ولا يهتم بمراقبتنا مثل الآخرين، فيكون مصيرنا مدرسين أو موظفين، وكانت الوظائف كثيرة جدا، أي أن العرض أكثر من الطلب بعكس اليوم.
وكثير من زملائي الذي يفطرون معنا عند الفوال بادحدح، أو عند صاحب الكبدة بالحلة التحقوا بالقضاء رغبة أو تحويلا دون رغبتم، لكنهم حمدوا السرى بليل يومها.
وبعكس زماننا؛ نرى الكثيرين اليوم يتهافتون على مهنة القضاء ويوسطون الكثيرين من ذوي الثقل والجاه والدالة ليكونوا قضاة بعكس الأولين من أئمة الفقه والحديث والعقيدة الذين كانوا يهربون من القضاء هروب السليم من المجدور، بل كان الولاة في الدولة الأموية والعباسية يحبسون الفقيه الذي لا يريد القضاء لأنها مهمة كانوا يرون أنها صعبة جداً، بعكس الرؤية اليوم. فعلا القضاء مهمة صعبة جداً؛ ولا يحسد من يمارسها.
Abo_Hamra@hotmaill.com