لكل مجتمع من مجتمعات المعمورة خصائص تتجلى بصورة أكثر بروزا عند مقارنة وضعها وحالها في مجتمعات أخرى، والمجتمع السعودي ليس بدعا في هذه السنة الكونية، ومن هنا يحق لنا القول إن من السمات الاجتماعية البارزة للعيان أن المجتمع السعودي منغلق على
ذاته؛ بدليل أنه يوصد أبوابه بأغلاض مقفلة في وجه من يقطن في أرضه من وافدين قدموا ليمدوا يد العون لأفراده في سعيهم الدؤوب لبناء منجزات وطنهم الحضارية بمجالاتها وتشعباتها الاقتصادية، والثقافية، والتعليمية، وغيرها من المجالات الحضارية الحيوية. فهل يصدق هذا القول على إطلاقه؟ وهل من انفراج وتحول نوعي في المرحلة الراهنة في ظل المعطيات والتطورات التي يشهدها مسرح الصعيد العالمي؟ هذه التساؤلات ستكون مدار النقاش في هذه الإطلالة المقتضبة المخصصة لمناقشة موضوع حيوي ذي أهمية قصوى.
يصدح الإخوة المقيمون بين ظهرانينا - والبالغ تعدادهم حسب بعض الإحصائيات ما يقارب السبعة ملايين - ومن يحلون ضيوفا على صعيد أرضنا المعطاء أن أفراد المجتمع السعودي ينأون بأنفسهم عن فتح قنوات تواصل تمهد لبناء جسور تواصل معهم تمكنهم التعرف عليه عن قرب، ومعرفة عاداته وتقاليده، وفي الوقت نفسه تمنحهم فرصة اطلاعهم على بعض مما لديهم من عادات وتقاليد. والمنصف ليس أمامه من خيار إلا التسليم بهذا الرأي، والاعتراف بحدوثه بحكم المعطيات التي يمكن تلمس حدوثها على خلفية معطيات أرض الواقع اليومي المعاش، وذلك يعود إلى حقيقة أننا لا نمنح على الصعيد الاجتماعي فرصة، أو فسحة نتواصل فيها مع من يفد إلى بلادنا من أصقاع العالم شرقيه وغربيه. ولعله من المناسب هنا الاستئناس، أو الاستدلال بانطباع أولي خرج به أخ غربي وصل لتوه إلى المملكة؛ إذ بمجرد رؤيته لأسوار منازلنا العالية أوحى له ذلك أن الفرد السعودي بصنيعه هذا يقوم ببعث رسالة مفادها أن المرء الغريب غير مرحب التواصل معه، والتعرف عليه، وحين سماعي لتلك الملاحظة وافقته الرأي، وأضفت أن ذلك يطال الفرد السعودي، وغير السعودي على حد سواء، وأن هذه يمكنه إرجاعه إلى عوامل عدة.
يلاحظ المتابع أن علاقات السعوديين العائلية على وجه التحديد، والعلاقات الاجتماعية بشكل عام تخضع لاعتبارات اجتماعية، وكذلك للتركيبية العائلية المستمدة من طبيعة النظام القبلي المنظم لأطر وطبيعة العلاقات الاجتماعية على المستوى الفردي والعائلي. ومن هنا فالمرء ليس بحاجة إلى إعمال النظر مليا ليقرر أن العائلة تأتي في المقام الأول في المنظور الاجتماعي السعودي، بل إنها تعتبر - إن صح التعبير - المؤسسة الاجتماعية الأولى، ولذا نجد أن الفرد السعودي يعد عائلته البعد الأوحد الذي يستمد منه هويته، ووضعه، أو مكانته الاجتماعية.
وهذا يستدعي القول إن أفراد الأسر تعمل على مد جسور التواصل الاجتماعي فقط مع أفراد تلك الأسر التي تشاركها في العادات، والتقاليد، وروابط القربى، والنمط المعيشي الذي تحياه، وتفضله على غيره، وهذا بدوره يفسر ويؤسس لخلق أساس قوي يحد من إقامة علاقات اجتماعية بين أفراد المجتمع السعودي ونظرائهم الإخوة الوافدين. وهذا التفسير المقترح جعلني لم أجد غرابة في أن أسمع تعليق صديق وافد أخبرني في ليلة مغادرته أرض المملكة أن هناك شيئا واحدا سيئا سيحمله معه وهو في طريقه لمغادرة بلادنا والمتمثلة بأنه أمضى سنوات طوال في المملكة ومع ذلك لم يكن بمقدوره إقامة علاقات اجتماعية مع عدد من أفراد المجتمع السعودي.
وبجانب هذا التفسير الاجتماعي يمكن كذلك إضافة سبب آخر مرده إلى أن هناك أفرادا من المجتمع السعودي يتخذون موقفا متحفظا تجاه الانفتاح الكامل، ومد جسور تواصل مع من لهم خلفيات ثقافية ودينية مختلفة عنهم، كما عزز ذلك أيضا الجرعات التربوية التي دعت في بعض دعواتها إلى تجاهل الثقافات والديانات الأخرى مما قاد في النهاية إلى عدم تقبل عدد من أفراد مجتمعنا للإخوة الوافدين، ويشاركهم على الطرف الآخر عدد من الوافدين الذين يفضلون العزلة عن الاختلاط بأفراد المجتمع السعودي، وبخاصة في ظل عدم وجود أماكن عامة تسمح للطرفين التعرف على بعضهم البعض، وتمنحهم فرصة الالتقاء ببعضهم وتبادل وجهات النظر والتحاور حول القضايا الاجتماعية وغيرها. كما أن للظروف السياسية التي تحيط بالمنطقة دورا في تعزيز عدم كثافة فرص التواصل بين الفرد السعودي ونظيره الوافد، وبخاصة الغربي الذي يفضل الابتعاد لاعتقادهم بأنهم مستهدفون.
وفي الوقت الذي يجد المرء أنه لا مفر من الإقرار بحقيقة هذه الصفة الاجتماعية غير الإيجابية نجد أن الوضع ليس بتلك السوداوية التي ربما أوحت بها السطور الماضية، فالأبواب وقنوات التواصل الاجتماعي بين مواطني المملكة وإخوانهم الوافدين ليست موصدة بإحكام تمنع منعا تاما بناء علاقات اجتماعية وصداقات بين الطرفين، ولكن حدوث ذلك قد يستغرق الكثير من الوقت، ويتطلب بذل مزيد من الجهد حتى يكون هناك نافذة يتواصل من خلالها الإخوة الوافدون بأقرانهم أفراد المجتمع السعودي، والتي بمجرد النفوذ من خلال طاقتها فسيجد المرء أن أفراد المجتمع السعودي ليسوا فقط بمرحبين بذلك النوع من العلاقات، ولكنهم مبادرين لخلق مزيد من فرص التواصل الاجتماعي مع الوافد العزيز وأفراد أسرته، والسبب في ذلك يبدو مستمدا من حقيقة خصائص المجتمع السعودي المتمثلة بالكرم والضيافة، وحب تكوين الصداقات مع الآخرين، والقدر العالي من الدفء والتي تترجم جميعا على أرض الواقع في الترحيب بالآخر، والرغبة في بناء علاقات بناءة معه.
والدليل المادي على هذا الرأي أن الأخ الغربي الذي تم الإتيان على انطباعه الأولي الذي عبر عنه بمجرد رؤيته لأسوار منازلنا العالية خرج بانطباع مغاير له بعد إقامته لمدة في المملكة جعله يقرر أن المجتمع السعودي ليس بذلك المستوى من الانغلاق والعزلة التي توحي للمرء من الوهلة الأولى إذ وجدت - كما قال - أفراده اجتماعيين محبين للتعرف على الآخرين، ولكن ذلك يتطلب أن تكون الخطوة الأولى، أو لنقل المبادرة تأتي من قبل الضيف الوافد. وهنا والكلام لأخينا الغربي أنني وعائلتي وجدت ترحيبا من عدد من الأسر السعودية التي بادلتنا الزيارات، ومنحتنا فرصة التعرف على بعض عادات وتقاليد الشعب السعودي فكانت فرصة سانحة لمعرفة بعض من الجانب الاجتماعي السعودي، وأردف معقبا أن هذا لم يتأت بين يوم وليلة، ولكنه استغرق وقتا طويلا رأيت أن قمة الجليد بدأت تذوب شيئا فشيئا ومعه حصل انفراج واتساع في مساحة التواصل مع أفراد المجتمع السعودي.
ويدعم ذلك أيضا أن قطاعا عريضا من المجتمع السعودي يمثله فئة الشباب الذي ساهمت ثورة الاتصالات العالمية بجعله أكثر انفتاحها وتقبلا للآخر أكثر من ذي قبل، بل وساهمت بميلاد رغبة جامحة لديه تولد عنها حب معرفة عادات وتقاليد الآخر، والاطلاع على ما لديه من معارف، وثقافات لأنه وجد أن ذلك يسهم في توسيع دائرة آفاقه، ويعمل على إثراء تجاربه. وتزامن مع ذلك المعطيات العالمية الجديدة التي تتطلب تعاط منبثق من رؤى ومفاهيم متجددة تتسم بالدينامكية، والانفتاح، والتسامح، والرغبة في التعايش السلمي. وهي أمور لا يمكن أن تتجسد على أرض الواقع في ظل الانغلاق والتقوقع حول الذات التي يحاول المجتمع السعودي أن ينأى بنفسه وينسلخ عن تلك السمة التي كانت إلى وقت قريب حاضرة وبقوة في المشهد الاجتماعي السعودي.
alseghayer@yahoo.com