الجزيرة - خاص
يتساءل كثير من الناس (عامتهم وخاصتهم) عن أسباب اختلاف الفقهاء في أقوالهم تجاه مسألة من المسائل الفقهية والشرعية التي تعرض عليهم من قبل المستفتين، بل إن المسألة الواحدة نجد فيها عدة أقوال تصل إلى ثلاثة أو أربعة بل أكثر من ذلك ؟ كل منها يختلف عن الآخر، وبالنظر إلى أن أصول الدين ومصدر تشريع الأحكام الإسلامية الأساسيين هما كتاب الله الكريم، وسنة رسوله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، طرحنا قضية اختلاف الرؤى الفقهية حول بعض القضايا على عدد من الفقهاء فماذا يقولون ؟
احترام العلماء
في البداية يقول الدكتور حسين بن عبدالله العبيدي (رئيس قسم الفقه بكلية الشريعة بالرياض): خلق الله تعالى الخلق وميز بينهم في الأفهام والإدراك فلا غرابة أن يوجد خلاف بين الأئمة رغم أنهم يصدرون عن شريعة واحدة، فالخلاف أمر طبيعي لأنه ناتج عن اختلاف أفهامهم وإدراكهم لهذه المسألة أو تلك، والإحاطة بجميع جزئياتها وأطرافها، وبالنظر لاختلاف الأئمة في المسائل الفقهية نجد في المسألة الخلافية الواحدة أكثر من قول، وهذا جار على هذه السنن لأن المسائل التي يقع فيها الاختلاف وتتعدد فيها الأقوال هي من المسائل الظنية المبنية على الاجتهاد من الأئمة، أما أصول الدين وأركانه وأساساته فهي مسائل متفق عليها بين علماء الأمة لأنها جاءت بنصوص قطعية واضحة لا مجال للاجتهاد وفيها كأركان الإيمان والإسلام وكذا أمهات الفضائل من الآداب الحسنة العامة كالصدق والوفاء والبر والإحسان فهي أمور نحن مأمورون بها دون خلاف، وأمهات الرذائل التي بضدها كالكذب والخيانة والقطيعة فهي أمور منهي عنها بلا خلاف.
وقبل ذكر أسباب اختلاف الفقهاء تجاه مسألة من المسائل الفقهية أذكر كلاماً لشيخ الإسلام- رحمه الله- حيث يقول: (وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة - المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً - يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته دقيق ولا جليل فإنهم متفقون اتفاقاً يقيناً على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلابد له من عذر في تركه، وجميع الأعذار ثلاثة أصناف، أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، الثاني: عدم اعتقاد إرادة تلك المسألة بذلك القول الثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وليعلم أنه يجب احترام العلماء الذين هم ورثة الأنبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم، والترحم عليهم والذود عنهم وعن أعراضهم لما لهم من مكانة عند الله تعالى، وعند رسوله- صلى الله عليه وسلم-، فهم حملة الشريعة والمحيون لما مات من السنة، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، كما أنه ينبغي إحسان الظن بهم وأنهم مجتهدون، يصيبون ويخطئون، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، وخطؤه مغفور. وعند التأمل في أسباب اختلاف الفقهاء تجاه المسألة الواحدة نجد أنها عائدة إلى مجمل أسباب، ذكرها العلامة ابن خلدون في مقدمته حيث يقول (الفقه معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين بالوجوب والحذر والندب والكراهة والإباحة وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة قيل لها فقه وكان السلف يستخرجونها من تلك الأدلة على اختلاف بينهم ولابد من وقوعه ضرورة أن الأدلة غالبها من النصوص وهي بلغة العرب وفي اقتضاءات ألفاظها لكثير من معانيها اختلاف بينهم معروف، وأيضاً فالسنة مختلفة الطرق في الثبوت وتتعارض في الأكثر أحكامها، فتحتاج إلى الترجيح وهو مختلف أيضاً، فالأدلة من غير النصوص مختلف فيها، وأيضاً فالوقائع المتجددة لا توفي بها النصوص، وما كان منها غير ظاهر في المنصوص فيحمل على المنصوص لمشابهة بينهما، وهذه كلها إشارات للخلاف بين السلف والأئمة من بعدهم، وقد ذكر أهل العلم أسباباً لوقوع الخلاف بين الفقهاء أبرزها:
1- أن بعض الصحابة سمع حكماً في قضية ولم يسمعه الآخر فاجتهد من لم يسمع حينما سئل عنها ولم يوافق اجتهاد ما سمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- أن يبلغ الفقيه الحديث ولكن يشك في صحته فلا يرجع عن اجتهاده.
3- ألا يصل الحديث إلى الفقيه أصلاً فلا يعلمه.
4- أن تكون الأدلة والنصوص هي السبب في اختلاف الفقهاء، وذلك حينما يكون لفظها مجملاً، أو ترد أدلة فيحملها بعضهم على العموم وبعضهم على الخصوص، أو الإطلاق والتقييد ونحو ذلك، أو الاختلاف في نسخ الدليل أو بقائه، أو التعارض بين الدليلين مع إمكان الجمع بينهما أو ترجيح أحدهما على الآخر.
5- الاختلاف في القواعد الأصولية التي بنيت عليها مذاهب الفقهاء كاختلافهم في حجية بعض الأدلة من عدمه كالقياس وشرع من قبلنا والاستحسان ونحوها.
6- اختلاف اللغة العربية في دلالتها كالحقيقة والمجاز ومعاني الألفاظ والحروف، وبناء على خلاف أهل اللغة حصل الخلاف بين الفقهاء لأن الشرع ورد باللغة العربية.
7- التعارض بين الأدلة في الظاهر واختلاف طريقة العلماء في سلوك المنهج للتوفيق بينهما.
8- اختلاف أفهام الفقهاء ومداركهم وإحاطتهم بهذه المسألة وذلك بناء على خلق الله جل وعلا الناس والمباينة بينهما، فليسوا على درجة واحدة فكل يدرك مالا يدركه الآخر ويصل فهمه إلى ذلك الحكم ولا يصل إليه الآخر.
تلك أبرز الأسباب المؤدية لاختلاف الفقهاء في المسألة الواحدة التي تؤدي إلى تعدد أقوالهم في المسألة الواحدة، وهذا ما حدا بالإمام ابن تيمية رحمه الله إلى تأليف كتابه القيم الذي تناول تلك الأسباب بالشرح والتفصيل وضرب الأدلة وسماه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) الذي ينبغي لكل من يدرس أو يدرِّس الفقه على اطلاع بذلك الكتاب النافع والإفادة منه.
أمر طبيعي
أما الدكتور فهد بن سعد الجهني (أستاذ الدراسات العليا بكلية الشريعة بجامعة الطائف) فيقول: الاختلاف بين العلماء في مسائل الفقه سنةٌ ماضية وأمرٌ طبيعي ؛وذلك إذا نظرت إلى أن الله تعالى أقر هذا الاختلاف ولو أراد الله للناس ألا يختلفوا لفعل ولا معقب لحكمه سبحانه؛ قال الله {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } (118) سورة هود.
وهذا الاختلاف بين العلماء لابد وأن نتيقن أن له أسبابه العلمية والمنهجية التي بيّنها أهل العلم في مؤلفاتهم بل واختصوا هذه المسألة (أسباب الاختلاف) بمصنفات علمية خاصة؛ ومنها: رسالة شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية الموسومة ب(رفع الملام عن الأئمة الأعلام) ورسالة أخرى للبطليوسي وغيرهما.
وهذه الأسباب لها معنى مشترك وهو: ما قدّره الله تعالى من اختلاف الناس في فهومهم وذكائهم ومدى استيعابهم وصبرهم وجلدهم على النظر والتأمل.
أما الأسباب العلمية والمنهجية فهي كثيرة منها ما يتعلق بالكتاب وفهمه ومنها ما يتعلق بالحديث النبوي وفهمه وطريقة وصوله والنظر في صحته من حيث السند من عدمه !
ومن ذلك:
1- أن النصوص الشرعية سواء من الكتاب أو السنة ليست على درجةٍ واحدة من درجة وضوح الدلالة على الحكم ؛ فالنصوص - وكما هو معلوم عند أهل العلم - تنقسم من حيث القطعية والظنية إلى أربعة أقسام:
قطعي الثبوت والدلالة، قطعي الثبوت ظني الدلالة ،ظني الثبوت والدلالة ،وظني الثبوت قطعي الدلالة .
ومن هذه الجهة تجد أن العلماء يختلفون في فهم وتأويل كثير من النصوص الشرعية غير قاطعة الدلالة على معانيها كاختلافهم في تفسير (القرء) أو (فامسحوا برؤوسكم) لاختلافهم في معنى (القرء) أو معنى (الباء).
2- ومن أظهر الأسباب أيضاً: أن بعض الأئمة لم يصله حديثٌ ما ؛فيفتي باجتهاده من خلال فهمه العام وقد يوافق مراد الحديث أو يخالفه ؛ ومنهم من قد يصله الحديث ولكنه لم يصح عنده فيُفتي بخلافه وهذا كثير ! أو يصله الحديث ويصح عنده ولكن يكون متن الحديث من قبيل (ظني الدلالة) فيحصل الاختلاف في فهمه !
مسرح للاجتهاد
ويرى الدكتور صالح بن غانم السدلان (أستاذ الفقه بكلية الشريعة بالرياض): أن مسألة اختلاف العلماء فيما ليس فيه نص وإنما هو مسرح للاجتهاد والمناقشة والأخذ والرد، وغير ذلك، معروفة من لدن عهد الصحابة إلى يومنا هذا وكان الناس يجدون اختلافاً بين فتوى وفتوى ولكنهم لا يضيرهم ذلك حيث ينظرون إلى من صدرت منه الفتوى فإن كان ممن جعلت له الفتوى فإنه لا يعارض بفتوى أخرى، ولو كانت على غير الراجح، فإن من جعلت له الفتوى اصطبغ بأمرين الأول أنه من أهل العلم ومن أهل الفتوى ولم يجعل له ذلك إلا حين كان عند ولي الأمر العام القناعة بأهليته لذلك.
الأمر الثاني أنه أصطبغ بطاعة ولي الأمر الذي أسند إليه هذا، فلم يكن الناس ينظرون إلى فتوى غيره بل يعتبرون فتواه هي المعتبرة وهي التي على الأمة أن تأخذ بها ولآن حكم الحاكم يرفع الخلاف فلا عبرة إذا بقول يخالف قول المفتي الذي جعلت له الفتوى من قبل ولي الأمر.
أما أيامنا هذه فأصبح كل معجبا برأيه وبقوله وقد صدق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فأصبحوا لا يسمعون لفتوى المفتي العام ومن جعلت له الفتوى من قبل ولي الأمر، ثم إن أهل العلم نصوا على أنه لا ينبغي للإنسان أن يفتي بخلاف من جعلت له الفتوى وأسندت إليه، بل عليه أن يسكت ويترك الأمر لأنه غير ملزم بالفتوى ولم يجعل له ذلك، وهذا يتناول كل إنسان يخالف فتوى المفتي العام حتى ولو كان من أعضاء الإفتاء فإن فتواه خاضعة لفتوى من جعلت له الفتوى وهو المفتي العام ثم أن أعضاء الإفتاء، فتواهم لا تتجاوز مكاتبهم وإنما الفتوى التي تتجاوز ذلك و ما يصدر من المفتي العام ويتم الإعلان عنها إذا دعت الحاجة لذلك، فهذا هو جواب هذا السؤال ووجود تضارب كما ورد في السؤال وما علاج ذلك، فالخلاصة أن العلاج أن يتأدب كل من رأى في نفسه أهلية للفتوى ألا يعارض فتوى من جعلت له الفتوى وهذا ما سار عليه سلف هذه الأمة في كل الأعصار وفي كل الأمصار.