خلال ثلاثة وعشرين يوماً قتلت إسرائيل في غزة الإنسان والأرض والحيوان والبناء، وأبادت مظاهر الحياة في كل مكان. كانت تمسك بآلات الدمار أيادٍ خائفة وحاقدة، منتقمة من كل ما ينتمي إلى فلسطين وغزة حتى لو كان جنيناً في بطن أمه، أيادٍ مجردة من الإنسانية، لأن الإنسان الحقيقي لا يهون عليه قتل البشر ولا حتى الحيوانات إلا من باب الصيد وبوسائل الذبح المعهودة.
مليون كيلوجرام من المتفجرات القاتلة المدمرة، منها ما هو محرم دولياً ومنها ما لا يعرف الناس عنه شيئاً حتى الآن، كلها صُبت فوق رؤوس أبناء فلسطين في غزة دون استثناء، الأطفال الذين استيقظوا على أصوات القذائف والقنابل الحارقة والصواريخ التي دكت المساكن دكاً، هذا ما أفرغته الطائرات وهي في طبقات الجو العليا، غير الكميات المهولة التي قذفتها السفن والدبابات وما فعله المشاة الذين كانوا يقتنصون الأطفال حتى الرضع منهم رغم الصرخات البريئة والاستعانة التي لم تجد من وحوش الحرب إلا الآذان الصم.
هناك سؤال يؤرق كل إنسان ويحير الأطفال على وجه الخصوص، وهو ما ذنب الصغار والرضع والأجنة في بطون الأمهات؟ وما الخطر الذي يشكله طفل يحلم ببزوغ شمس اليوم الجديد ليذهب إلى المدرسة أو الروضة لتكتحل عيناه في أول النهار أو قبل الفجر بصورة الحرائق والدخان الذي يلامس عنان السماء وصور القتل الوحشي والدمار الشامل؟ ما ذنب هذه البراعم البريئة الطاهرة لكي تدك تحت الأنقاض وتفتت أجسامهم بوحشية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، إلا في قاموس هيروشيما ونجازاكي في النصف الأول من القرن الماضي؟
ذاكرة الطفل الفلسطيني متقدة بصورة لا يعرف العدو مداها، لأنها تختزن صور الأحداث التي لم تشاهدها، فكيف بها مع الأحداث التي عاشتها؟ والتي افتقد فيها كثير من الأطفال بعضاً من أفراد الأسرة إن لم يكن كل الأسرة كما حدث لبعض الأطفال جراء الحرب المدمرة، ولأن ذاكرة الطفل ستظل واسعة المحتوى وقوية التذكر، وجيدة الحفظ، وفولاذية الجدر، فإن لأطفال فلسطين حديثاً آخر مع العدو الإسرائيلي لن يكون بالحجارة ولا بالأسلحة كما ينتقم المظلوم دائماً، بل سيكون ردها من خلال التسلح بالعلم والتقنية وامتلاك ناصية التفوق الذي من خلاله تفوق الأعداء، إذ لم يتفوقوا بالكثرة العددية إنما تفوقوا بالعلم والمعرفة. حينما ضربت الولايات المتحدة اليابان بالقنابل الذرية كأول تجربة على البشر، كانت تعلم أن الأرض التي أجريت عليها التجربة ستنعدم فيها الحياة إلى الأبد، بل من يمر على سطحها من إنسان أو حيوان سيفقد مقومات الخصوبة والإنجاب فضلاً عن إصابته بالأمراض الجلدية القاتلة ومرض السرطان، وكانت تدرك ذلك، ولا تريد أن تقوم لليابانيين قائمة بعد ذلك التاريخ، وتوهمت أنها استراحت من ذلك الكابوس، ولم تكن تدري أن اليابانيين كانوا يخططون إلى المستقبل البعيد، وبالفعل أعدوا لذلك المستقبل من خلال رعاية أطفالهم منذ الولادة وفي مختلف مراحل عمرهم وأعدوهم إعداداً مناسباً للثأر من الأمريكان، وبعد نصف قرن من الزمان جاء الرد الياباني على أمريكا بما لا قبل لها به، وكان الرد على شكل تقنية تغزو كل البيوت والمكاتب والشركات الأمريكية من المنتجات اليابانية التي لا غنى للأمريكان عنها.
وصار كل بيت أمريكي لا يخلو من جهاز آلي أو تلفاز أو ساعة أو كاميرا أو جهاز هاتف نقال أو عادي وغير ذلك من الأجهزة اليابانية التي أخذت تتسلل إلى الحياة الأمريكية كما يتسلل الهواء النقي الذي يستنشقه كل الناس، وقتها عرفت أمريكا حجم الخطأ الذي ارتكبته برمي القنبلتين الذريتين على اليابانيين، وأدركت أن الجولة آلت إلى أصحاب الأعين الضيقة، الفكر الوقاد، والأجسام النحيلة، والذاكرة التي لا تنسى.
أطفال غزة اليوم يتألم من بقي منهم على قيدة الحياة، ويعيش الكثيرون منهم اليتم والإعاقة بمختلف أنواعها، لكن ذاكرتهم ستختزن ما شاهدوه وما جرى لهم ولأهلهم وديارهم، وسيكبرون غداً ويعون الدرس جيداً ويكون انتقامهم ليس بالحقد والدمار والإبادة، سيكون ردهم بالحياة لشعبهم ولأمتهم وبالعلم والتعمير والتطوير والإنجاز والتفوق في كل شيء، سيؤسسون أنفسهم ويتأهلون بما يضمن لهم البقاء بقوة في هذا العالم الذي لا مكان فيه للمتقاعسين والمتخلفين عن ركب الحضارة والتقدم. سيبنون مكان المدارس التي دكتها القذائف والصواريخ جامعات يشار إليها بالبنان، ومكان الدمار الذي لحق بالأخضر واليابس ستقام المستشفيات العملاقة والمراكز الطبية العالمية، وستنشر ملاهي الأطفال والأسر في كل مكان، وسيعيش جيل الغد في واقع آخر حينما يتسلح طفل اليوم بأهم أسلحة العصر.
ربما يطرأ سؤال بريء: أي تعليم في ظل هذا الاحتلال والظلم؟ لكن المؤكد أن هؤلاء الأطفال سيكبرون غداً وسيكون لهم حديث آخر، والأيام حبلى بالمثير من المفاجآت والمتغيرات، وأن ذاكرتهم ستحتفظ بكل صغيرة وكبيرة، وأن مشاهد الدمار ستكون ماثلة أمامهم، في كل مراحل عمرهم، بكل ما حملت من وحشية وحقد وهمجية.
shunkul60@hotmail.com