بين الذكر والفكر جلست أسترجع آيات الله في الكون، وفجأة وجدتني أتذكر قوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا} (76) سورة مريم، وعدت إلى أحد كتب التفسير لأقف على المقصود بالباقيات الصالحات فوجدت أن معناها في هذه الآية هو ما يقوم به العبد من عمل صالح يبقى له ولذريته من بعده رصيداً وذخراً، وذلك باختلاف معناها في قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (46) سورة الكهف، حيث إنها تعني في هذه الآية كما ورد في التفسير: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وقد زاد بعضهم عليها ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
|
وتذكرت قصة سمعتها في الصغر، حيث كان القصص الجميل يُشكِّل جزءاً أساسياً من الثقافة والتسلية في ذلك الوقت، إذ يُحكى أن شهبندر التجار في الشام (وشهبندر التجار تعني شيخ التجار) توفي وترك ابناً وابنة وزوجة بالإضافة إلى والدته، فحل الابن مكان أبيه في تجارته وكان قليل الخبرة بحكم حداثة سنه، والمنصب مطمع للكثيرين من تجار الشام في ذلك الوقت، وعند إعداد قوافل التجارة لجأ التاجر الشاب (ابن الشهبندر) إلى بعض التجار الكبار ولسوء حظه أن قصد بعضاً ممن كانوا يحسدون والده على تجارته وثراه الواسع يستشيرهم فيما يمكن أن يعد لقافلة التجارة المتجهة إلى العراق حيث كانت التجارة بين العراق والشام رائجة في ذلك الوقت، وكان منهم اللئيم الذي يتمنى أن تضيع أموال الفتى حتى لا يحل محل أبيه شيخاً لتجار الشام طمعاً في هذا المنصب الذي تشتهيه نفسه، فقال للفتى إن أفضل التجارة هي تجارة البراقع (الخمار)، في الوقت الذي كانت فيه النساء في العراق قد بدأن السفور، فوضع الفتى أمواله كلها في تلك التجارة وسافر إلى العراق مشيعاً بدعوات جدته ووالدته وأخته، وكان الابن باراً كريماً من أهل التقى والصلاح كأبيه.
|
وصل التاجر الشاب إلى العراق تحفه الدعوات الصالحات بالتوفيق، وسكن في الخان (الفندق) الذي كان ينزل فيه أبوه إذا قصد العراق، وكان هذا الفندق لامرأة عجوز تعرف أباه جيداً، ومرت أيام ولم يتم بيع أي شيء من قافلته، فقد بدا السفور واضحاً على النساء، فجلس وحيداً في الفندق يدعو الله ويبكي في صمت، وذات ليلة سمعته صاحبة الفندق، فقرعت باب غرفته وسألته عن سبب بكائه، فأخبرها القصة وختمها بقوله: أنا لا تهمني أموالي أو نفسي بل همي هو جدتي وأمي وشقيقتي، وقعت هذه الكلمات على أسماع العجوز نافذة إلى القلب، فسألته من يكون، فعرَّفها على نفسه، وفوجئ بمدحها لأبيه كثيراً ووصفها له بأنه كان رجل خير، وكان يتصدق كثيراً على المساكين ويعمر المساجد، وقالت له: قدَّم أبوك من خير في حياته لذا لن يضيّعك الله وأهلك بعد مماته، وكان لهذه الكلمات وقعها الطيب في نفس الشاب الذي كان كالغريق الذي يتعلق بالأمل في النجاة.
|
فكرت العجوز ملياً ثم التفتت إليه قائلة له: لا يفيدك الآن سوى البحث عن من يقوم بالدعاية لتجارتك ولن يفيدك في هذا إلا الذهاب لمسجد (كذا) فهناك شاعر مفوه قد انقطع لعبادة الله بعد أن هجر الشعر، فاقصص عليه حكايتك لعل الله يجعل لك من همِّك فرجاً.. ومن ضيقك مخرجاً -إن شاء الله- إذا قال شيئاً في تجارتك.
|
ذهب الفتى إلى المسجد أو الجامع الذي وصفته العجوز له، فوجد رجلاً صالحاً يتعبد، وبعد أداء صلاة بعد صلاة، سأله الرجل ما الذي بك لتخلو في هذا المسجد، فقصَّ عليه الفتى قصته، وكان الشاعر يعرف والده فذكره بالخير، وقال للفتى لقد انقطعت عن الشعر منذ فترة ولكن توكل على الله واذهب إلى تجارتك وتعشم في وجه الله خيراً.
|
خرج الشاعر من المسجد، (وهو ربيعة بن عامر الشهير بمسكين الدارمي)، وقال:
|
قل للمليحة في الخمار الأسود |
ماذا فعلت بزاهد متعبد |
قد قام شمر للصلاة ثيابه |
حتى وقفت له بباب المسجد |
ردي عليه صلاته وصيامه |
لا تقتليه بحق دين محمد |
وكان الشعر ينتقل في العراق كما تنتقل النار في الهشيم، وما انتهى الشاعر من أبياته هذه حتى راح الجميع يرددونها هنا وهناك، وسرعان ما تجمع النسوة على تجارة الشاب يشترين الخمار، وباع الفتى ما لديه من البراقع للنسوة اللائي تخيلن أنهن أجمل في الخمار وهجرن السفور، فتحقق مقصد الشاعر في مساعدة ابن الرجل الصالح والحشمة للنساء وبذلك ضرب عصفورين بحجر واحد، أما التاجر الشاب فقد أنفق بعض أرباحه على ما اعتاده أبوه من الصدقات والأعمال الصالحات، وعاد إلى الشام فرحاً بتوفيق الله له.
|
فانظر أخي القارئ كيف كان صلاح عمل الوالد سبباً في نجاة تجارة الابن رغم حقد الحاقدين وحسد الحاسدين، وكيف أن الدعاية لها أهميتها منذ القدم.
|
وتذكرت قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا} (9) سورة النساء، ووجدتني أربط بين معنى الآيتين وأنا أشعر بالقناعة والرضا واليقين برحمة الله وعدله.
|
|