في شرقنا العربي - غير السعيد - يجيء المرء وكأنه لم يولد، ويعيش وكأنه لم يوجد، ويموت وكأنه لم يعش، فإذا رحل ذلك الفرد رحلته الأخيرة تحركت العاطفة العاطفية واخضلت العين الباكية ولم يتجاوز التعبير عن ذلك كلمة رثاء أو دمعة بكاء، وكأننا قضينا بذلك حق الراحل علينا وقمنا بواجب الوفاء نحوه، وهكذا تذبل أزهار وتموت أشجار وتجفُّ حقولٌ كانت رائعة الاخضرار، وهكذا تتوارى أو تنطوي شخصيات يجب أن تبقى متحركة في المشاعر والأفكار، وما حيلة الزهرة الفوَّاحة إذا أنبتتها يد القدر القاهر بين سفي الرمال ولفح السموم.
مواجع الدهر وفواجعه كثيرة ولكن الموت أوجع هذه المواجع وأفجع تلك الفواجع لأنه السفر الذي لا عودة منه والفراق الذي لا لقاء بعده في هذه الحياة الفانية، ولعل أبعد ما يكشف عنه الموت من مخبئات النفس الإنسانية (أي ما تحاول الذات أن تخفيه أو تنكره) هو أن يأتي الموت وكأنه تكذيب لما ندَّعيه لأنفسنا من خصال المودة والوفاء والبقاء على العهد.
إذا كان من الواجب والمسنون أن نطالب الفاقد بالتحمل بالصبر وأن نطلب له جزيل الأجر فهل هو من الوفاء للفقيد، وما يتفق مع الحب والوفاء لدى الفاقد أن نطلب منه (السلوان) عن من فقد، أليس (السلوان) تعبيراً مغطى أو مخففاً لمفردة (النسيان)؟
إذا فقد فردٌ منا عزيزاً عليه ثم عاد لمزاولة أنشطة حياته في لذاتها ومباذلها فقد أقام بينه وبين من فقد حجاباً كثيفاً لا تنفذُ خلاله عاطفة تذكر أو خاطرة تصور يُطل منها الحي على علاقات توثقت وذكريات أورقت مع الراحل المفقود.
الإيمان بقضاء الله الذي لا يُرد وقدره الذي لا يُحدد لا يمنع الإحساس بألم المصاب وعمق الجرح لفقد حبيب أو الثكل في قريب، وتتسع دائرة الحزن ويزداد عمق الجرح بمقدار اتساع دائرة مكانة الفقيد في نفوس أهله وذويه وفي قلوب محبيه وعارفيه، والأخ العزيز عبدالله بن محمد الحقيل له في كل نفوس ذويه مكانة وفي قلوب محبيه وعارفيه منزلة.
لم يكن أبو هشام - رحمه الله - زعيماً سياسياً ولا مصلحاً اجتاعياً ولا ممن تغمره الأضواء ويطلبها فتلاحقه فقد كان زاهداً فيها غير معني بها، ولم تكن ميزته أنه كان على رأس بيوت مالية أو مواقع إدارية فقد شاركه ويشاركه في ذلك كثيرون ولكن ما يميزه لدى من يخالطه الأفق الرحب والخلق الرطب والتواضع الجم والجانب الكريم، لقد كانت له خصيصة تجعل من يعرفه من المحدقين في الإنسان الباحثين عن الإنسان الوالهين إلى الإنسان في صفاته المشترطة والمتمناة يشعرون في داخله بذلك الوتر الجميل تنبعث منه أنغام الصفاء والتودد والتواضع النبيل، ومع ما تقلب فيه من مناصب ذات ارتباط بمصالح الناس وحاجاتهم، فما أحسب أن أحداً منهم أحس منه بنبرة جفاء أو واجهه بوجه عبوسٍ، وتلك هي الصفات التي يبحث عنها المرء فلا يجدها إلا في القليل.. القليل من البشر، وذلك مصدر حزن وشجى من يبحثون عن الإنسان مشترطين له ومشترطين عليه.
خلف الله الفقيد على أبنائه وأهله وذويه ومحبيه بجميل الصبر وجزيل الأجر وصلاح العقب وخلف عليه أهله وأحباءه بظلال رحمته ووارف مغفرته والأكرمين من ملائكته يدخلون عليه من كل باب سلام، والله غالب على أمره ولا حول ولا قوة إلا به.