كان بإمكان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أن يتجاهل كلمة الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز التي ألقاها في إحدى جلسات منتدى دافوس الاقتصادي العالمي، رغم أنها مليئة بالأكاذيب السياسية ومفعمة بالتضليل الإعلامي إزاء ما جرى من عدوان إرهابي على غزة....
....كما هي عادة الصهاينة في المحافل الدولية، خاصةً أن الموقف العربي الرسمي كان حاضراً في ذات المنصة بشخص أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى الذي لا يفصله عن بيريز وأردوغان إلا أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون، فضلاً عن أن العالم قد شاهد بالصورة الحية حجم الدمار الذي خلفه العدوان الإسرائيلي على غزة، وطبيعة الأسلحة المحرمة المستخدمة، التي قتلت أكثر من 1300 بريء ثلثهم من الأطفال، وأصابت ما يزيد عن5000 جريح.
لكن هذا الرجل الحر استشعر مركزه السياسي ومسؤولية بلاده التاريخية، كونها واحدة من أكبر وأهم الدول الإسلامية في المنطقة، فرد على الصهيوني بيريز في ذات اللحظة ب(كلام ٍ معتبر) سمعه العالم بلغة واضحة وجادة، فند خلاله أكاذيبه وكشف تضليله، مؤكداً عدوان إسرائيل على غزة وقتلها الأطفال الفلسطينيين، حيث قال مخاطباً بيريز: (إن صوتك العالي يعكس نفسية المتهم)، وتابع أردوغان: (أنتم أكثر الناس معرفةً بالقتل، والجيش الإسرائيلي يقتل الأطفال في شواطئ غزة، ورؤساء وزرائكم قالوا لي إنهم يكونون سعداء جداً عندما يدخلون غزة على متن دباباتهم)، ثم قام وغادر منصة الجلسة عندما لم يفسح له مديرها بمواصلة الرد الذي لم يتجاوز 12 دقيقة في مقابل 25 دقيقة منحت للإرهابي بيريز في أن يقول ما يشاء وأن يزور الواقع كما زور اليهود التاريخ.
لقد أثبت أردوغان في هذا الموقف التاريخي أن القادة الحقيقيين هم الذين يستشعرون عظم الأمانة الإنسانية في المواقف العالمية الحرجة فلا يترددون في ردها إلى الحق المبين، وهم الذين يثبتون على المبادئ السامية التي تشربتها نفوسهم الشريفة فلا تلوثها العلاقات مهما كان نوعها أو درجة حساسيتها، وهم الذين يملكون الإرادة السياسية للفعل الصحيح لأنهم يستندون إلى الجماهيرية الشعبية العريضة، وهم الذين يؤكدون أن الأمة بخير وإن غلبها الوهن، وهم الذين يعززون شعور التعاطف مع قضايا الأمة في أوساط جماهيرها بأفعال حقيقية تلقى الاحترام العام المؤدي إلى التأييد التام.
غير أن السؤال الأهم: ما الذي يدفع رجب طيب أردوغان إلى أن يتخذ تلك المواقف الشريفة، والتصاريح الجريئة في شأن العدوان الصهيوني على غزة؟ رغم أن بلاده مكبلة باتفاقيات عسكرية مع الغرب وعلاقات سياسية مع الكيان الصهيوني، وهو العذر الذي سوقته دول عربية لتتخلص من مسؤولياتها القومية.
الإجابة تبدو في ثنايا التاريخ التركي، الذي يبرهن دوماً على أن تركيا العثمانية لا يمكن أن تبقى على الهامش الدولي ولو للحظة عابرة، وهذا ما جعل أردوغان يُذكّر اليهود في خطاب سابق ألقاه في البرلمان التركي أن المسلمين هم الذين آووا أجدادهم بعد طردهم من الأندلس (إسبانيا حالياً)، كما أن الإجابة ترتبط بالروح الإسلامية المتقدة لدى شخصية أردوغان، فمن يقرأ تاريخه الشخصي ومنطلقاته الفكرية يدرك أن مواقفه السياسية لا بد أن تنسجم مع خطه الديني. فالطفل الذي باع البطيخ ليتقاسم المسؤولية مع والده الفقير، هو الذي يتقاسم اليوم مسؤولية الدفاع عن فلسطين مع بقية شرفاء الأمة من قادة سياسيين، وعلماء دين، وأبطال مقاومة، ورجال إعلام، وأصحاب أقلام.
(*)Kanaan999@hotmail.com