اختيار (القدس) عاصمة ل(الثقافة العربية) في عام 2009م حدث تاريخي مهم يمنحنا فرصة ذهبية لتنشيط ذاكرتنا العربية الجمعية التي لا تبخل علينا باستدعاء ملفات الهوية العربية المؤسسة لحضارة عربية مشرفة في أرض فلسطين العربية، فقد انتقل جزء من آبائنا العرب الأوائل من شبه الجزيرة العربية في رحلة نحو الشمال، حيث نزح بعض العرب ممن يسمون ب(الكنعانيين) و(الآموريين)، فهم أول من سكن سهول فلسطين في حين رغب العرب (اليبيسيون) أن يستوطنوا القدس لفترات متطاولة، ولذلك فنحن لا نبتئس بما حدث - مثلا - في يوم 30 سبتمبر من عام 2002م حين وقع الرئيس الأمريكي جورج بوش على قانون يروم اغتصاب (عروبة) القدس ويجهد لأن يبرهن على مصداقية (عبريتها)... نحن لا نبتئس من ذلك الصنيع الأهوج فثمة ما يؤكد على توغل قدمنا هناك، ونحن نثق تماماً بمشروعية ذاكرتنا الجمعية وأمانتها ودقتها!
أعتقد أن مناسبة بهيجة كهذه تجعلني أطالب بتمديد فترة تزيين القدس ك(عروس) للثقافة العربية لمدة ثلاث سنوات، فسنة واحدة لا تكفي لكي نبتهج بهذه المناسبة ونخطط لها كما ينبغي أن يكون عليه التخطيط، سنة واحدة أقصر من نفسنا الطويل الذي يفرش ألسنتنا وروداً ورياحين حين تتشرف بسرد القصص و(الحواديد) لأطفالنا عن القدس واستحقاقات القدس وطهريتها وقداستها ونبلها وشرفها وما يحيط بها وما يحاك لها، سنة واحدة لاتفي بالوقت الذي يجب علينا إنفاقه كاملاً غير منقوص من أجل ملء بعض الملفات الذهنية والوجدانية لدى أبنائنا وبناتنا ومحاورتهم حول: ماذا يعني اختيار القدس عاصمة لثقافتنا العربية؟، في محاولات فكرية عقلانية جادة لإقناعهم بأن القدس تنتظر منا الكثير من الحب الصادق والمشاعر النبيلة والوقفات المشرفة، وبأنها جعلت تزين ساحاتها وتفرغ قنينات أزاهيرها لكي تستقبل إبداعاتنا في ميادين الثقافة والأدب والفن، لينضاف ذلك إلى ما يتوجب على الساسة تقديمه للقدس في الميادين السياسية والاقتصادية والتنموية.. وأحسب أن رساماً عربياً يقول لنا: سنة واحدة لاتكفي لكي أقطر ذهني المعصور بلوعة القدس وآلامها من أجل إبداع لوحة فنية صغيرة تصور شيئاً من جماليات القدس وزخارفها وتاريخها وملاحمها وتضحياتها وأبطالها، ومثل ذلك وأكثر يقوله الشاعر العربي والفنان والروائي والأديب والكاتب والباحث والمؤرخ...
ولعل من الأمور الإستراتيجية التي يمكننا التفكير فيها بشكل جدي هو كيف نجدر لقضية القدس ونؤكد على استحاقاتها في الوجدان العربي المعاصر، وبالأخص لدى الأطفال والشباب، وكيف يمكن لنا أن ننال شرف الإسهام في ذلك.. ثمة مجالات وأعمال كثيرة، فمن ذلك أنني أرى أن بلد الحرمين الشريفين جديرة بأن تؤسس مركزاً ثقافياً كبيراً عن البلد الذي يحتضن (الحرم الثالث) تجسيداً لحقيقة التلاحم العضوي والوصال الروحي الذي سطرها القرآن الكريم في أول آي سورة الإسراء {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ... الآية}، على أن يتم الإعلان عنه في يوم تدشين القدس كعاصمة للثقافة العربية، كما أرى ضرورة أن تقوم وزارة التربية والتعليم وكذلك وزارة التعليم العالي بالتنسيق مع المؤسسات الثقافية بإطلاق (يوم القدس) في مدارسنا وجامعاتنا.. على أن يشهد ذلك اليوم ملحمة للإنتاج الثقافي العربي الإبداعي في كافة الفنون، كما أن المؤسسات الثقافية والإعلامية والقنوات العربية مدعوة بل مطالبة بأن تجعل القدس في بؤرة فعالياتها وأنشطتها وبرامجها للأعوام القادمة، كتنظيم المؤتمرات والندوات والمحاضرات والبرامج الإعلامية، مع التأكيد على أهمية الروح الابتكارية والنفس التجديدي ومخاطبة كافة الشرائح.
ويسع الشركات والمؤسسات والأغنياء والموسرين العرب أن يبرهنوا على صدق انتمائهم للقدس بأن يقدموا الدعم الكافي لتمويل مثل تلك الأنشطة والفعاليات والبرامج مؤكدين جميعاً على مشروعة (حق يأبى النسيان)!
د. عبدالله البريدي