كان للعدد الخاص الذي أصدرته (الثقافية) عن الشاعر والروائي والقيادي والمبدع الدكتور غازي القصيبي أصداء واسعة على امتداد الوطن العربي والمهجري، لكن الصدى الأهم هو ما كتبه المعني بالعدد، المفاجأ بما فيه، الذي كتب ل(الجزيرة) هذه (الوثيقة): «الشهادة والإشادة»..
أخي العزيز خالد المالك حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
عندما كنت في الثانية عشرة، أو نحوها، حملت (قصيدتي) الأولى - التي لم يكن فيها بيت موزون واحد - إلى الصديق العزيز الشاعر عبدالرحمن رفيع، وكان زميلي في الفصل، وانتظرت رأيه بخوف.. وجاء رأيه أكثر من سخيّ..
وعندما كنت في السابعة عشرة، في سنتي الجامعية الأولى، حملت قصتي الأولى إلى زميل عزيز في الدراسة، اسمه عبدالمنعم أحمد عبدالمنعم، وكان قد سبقني في كتابة القصص، وانتظرت رأيه بخوف.. وجاء رأيه أكثر من سخي..
من أعاجيب الزمن أن هذا الزميل العزيز كان، رحمه الله، قصصياً ذا موهبة نادرة ومع ذلك لم ينشر، قط، شيئاً.. ولم يعرفه أحد فتأمّل!
وعندما كنت في الثالثة والخمسين حملت الفصول الثلاثة الأولى من (شقة الحرية) (وقتها كان العنوان الذي أفكر فيه (شارع الدرى) - ولكن تلك قصة أخرى) إلى الصديق الكبير الأستاذ الطيب صالح، رحمه الله، وقلت له: اقراها.. وقل (أكمل) أو (لا تكمل).. وقرأها وقال (أكمل!)..
تذكرت، وقتها، الدكتور عبدالقادر القط عندما حملت إليه مخطوطة الديوان الأول (وكان عنوانه وقتها ليالي الصبا ثم أصبح أشعار من جزائر اللؤلؤ) وكنت على أبواب العشرين أسأله أنشر؟ أم أمزق الأوراق؟ انتظرت شهراً وأنا في قبضة الرعب، قبل أن يجيء رده السخي: (يجب أن تنشر!)..
لماذا أقول لك كل هذا الآن؟ لأنني أود أن أقول إن كل من عُذّب، وسعد، بصبحة الحرف يتأرجح، دوماً وأبداً، بين الثقة المفرطة والقلق القاتل..
لابد من الثقة لكي يكتب.. ولابد من القلق لأن المبدع الحقيقي في شك دائم من جودة إنتاجه.. أو يجب أن يكون..
ثم جاء العدد الخاص من (الثقافية) مفاجأة لا أبهى.. ولا أسعد.. ولا أشهى..
هل هناك ما يسر رجلاً يستقبل السبعين، مع سرقة عامين من التاريخ الهجري لصالح التاريخ الميلادي! أكثر من اعتراف زملاء المهنة.. واحتفائهم بما يكتب؟.
يقول التعبير الإنجليزي، الذي لا أعرف له شبيهاً عربياً، في معرض الثناء على مهني ما هو (طبيبُ طبيب) أو (محامي محام) - والفكرة أن الطبيب عندما يختار طبيبا لن يختار إلا طبيبا يثق بكفاءته تمام الثقة.. أو المهندس.. أو المحامي..
هذا العدد الخاص حولني إلى (شاعر شعراء) و(روائي روائيين)...
يا الله!
كل هذا الحشد الكريم!
كل هذا الجمع الرائع من المحيط إلى الخليج!
كل هؤلاء يعطون من أنفسهم.. ومن وقتهم..
ومن مشاعرهم.. احتفاء بمواطن بسيط من مواطني مملكتهم السحرية!
لا أظن أن شوقي كان أسعد مني حين بويع بإمارة الشعر (وأنت تعرف رأيي في هذه القضية الشائكة!)..
ولا أظن أن حائزاً على جائزة نوبل فرح فرحتي بهذا التكريم منقطع النظير..
فليوزعوا نوبل على من شاؤوا.. لقد ظفرت أنا (بنوبلي)!
شكراً لك من الأعماق!
وشكراً لكل أخ أسعدني بحروفه..
وكل أخت أسعدتني بكلماتها..
من بين هؤلاء من كنت أقرأ له وأنا مراهق، وأسعدُ لأني عشت في عصره، وامتد بي العمر لأسمع منه فيّ رأياً يقترب من رأيي فيه!..
هذه من نعم الله التي أشكرها ولا أحصيها.. وشكراً للزملاء الذين ساعدوا في إخراج هذا العمل - الوثيقة.
لا أستطيع أن أفي الشكر من يستحق الشكر.. ولكني أرى في هذا المجال، أن الملوك الأربعة الكبار الذين شرفت بالعمل تحت قيادتهم يستحقون كلمة ثناء صادرة من الأعماق..
فقد صبروا على ما لا يكاد أن يُصبر عليه أحد..
وتحملوا ما لا يكاد أن يتحمله أحد..
وشكراً لكل قارئ من المحيط إلى الخليج.. وتلك نعم من نعم الله ثانية أن يكون لي قراء من المحيط إلى الخليج..
وأخيراً، وليس آخراً، إلى زوجتي الغالية أم يارا وسهيل وفارس ونجاد.. كلمة حب ووفاء.. تلك التي صبرت على (ضرّة) (الكتابة) هي، دوماً، قارئتي الأولى.. وناقدتي الأولى..
لم تقل، قط، كلمة قاسية.. ولكن ملامح وجهها كثيراً ما كانت تكفي لأمزق ما كتبت!
بقي أن أتحرر من أي تواضع مصطنع لأقول لك بصراحة إني أرجو أن يتحول العدد إلى كتاب.. تتكرم (الجزيرة) بطبعه..
أو تسمح لي بطبعه..
فأنا أريد أن أترك للأولاد والأحفاد (كنزاً) يذكرهم أنني مررت بهذه الأرض ومضيت ولكني تركت وردة هناك.. ونجمة هناك.. وبينهما كثير من الدموع.. والابتسامات!
تركت لهم محبة آلاف القراء..
جُعلت فداهم!
واسلم لأخيك
غازي القصيبي